لن تكون إلا تهدئة ظرفية. ليسَ معنى ذلك أن الحرب الأهلية قادمة لا محالة. لكن على الأقل، واهمٌ من يتصوّر أن شبحها قد انكفأ أو وهن، أو أن الأزمة، ببعديها الكياني والدستوري، قد خلفناها وراء ظهرنا، أو سُحب منها الصاعق الأمني، أو جرى الاتفاق، سرّاً أو ضمناً أو جهاراً، على وضع ضوابط لها، أو على مرجعية تحكيمية بصددها، أو على قواعد لادارتها، والوصول بها، تدريجياً، الى برّ الأمان، ولو من بعد أخذ ورد.

أما نقطة «الذروة» المنتظرة في الأزمة، فليس بالمستطاع الحكم ان كانت وراءنا، أو أمامنا، أو إن كنا نجحنا في تفاديها، أو تأجيلها، أو تبديدها.

ذلك أنه في الأصل، نحن أمام أزمة مستفحلة، مستعصية، يتمثل عمقها الكياني ـ الدستوري في أنه ليست تستتب أمور الدولة الطائفية، بما هي دولة مركزية، الا على قاعدة هيمنة تنهض بها طائفة بعينها. هذا الشرط ما عاد متوفراً بعد انقضاء نوع الهيمنة الذي عرف بـ«المارونية السياسية»، لكن الغلبة أو الهيمنة، هي في الوقت نفسه، شرط لا غنى عنه، وليس ما يعوّضه، وإذا لم يتأمن فإن مكانه يبقى شاغراً بدلاً من أن ينتفي هذا المكان.

أما المحور الذي تتحرّك حوله الأزمة، وبالاتكاء على عجز السنة والشيعة متفرقين أو مجتمعين في فرض هيمنة طائفية، كانت وما زالت الشرط في استتباب أمور الدولة الطائفية، فهو محور سلاح حزب الله، أي سلاح حزب الله بما هو كاشف لطبيعة حزب الله نفسه.

إذ ليس من فرق جوهري بين الدعوة الى سحب سلاح حزب الله وبين طلب فض تركيبة حزب الله كما نعرفه. فهذا الحزب هو هو وريث الأيديولوجيا اللبنانوية ونقيضها الأعتى في آن. هو الحزب الوحيد، من بعد التجربة التاريخية لحزب الكتائب اللبنانية، الذي تبلغ به الجرأة حدّ الجزم بأنه يحبّ لبنان أكثر من سواه بدليل التضحية القربانية لهذا اللبنان، ما يعني بالتالي أنه أحقّ من غيره بالشعار الكتائبي ـ التاريخي «لبنان لنا». لكنه الحزب الوحيد، الذي لا يشبه الصورة التي انتقاها لبنان عن نفسه في الأيديولوجيا التأسيسية لهذا الكيان، الذي وضع كلماتها ميشال شيحا.

نحن، مع حالة حزب الله، أمام تجربة مختلفة عن الأحزاب الجذرية السابقة في لبنان، مثل الشيوعي والقومي الاجتماعي، التي كان عليها منذ البدء، بتفاوت ومراوحة وبأشكال مختلفة، أن تسلّم لهذا اللبنان بتلك الخصوصية «الفينيقية» في مكان ما، من دون أن تقرّ بأنها تسلّم بذلك. أما حزب الله فيريد أن يقنع سواه في كل مرة بأنه أكثر من يسلّم بتلك الخصوصية. وتلك المفارقة ينبغي فهمها بجدلية ومن دون تسرّع: انه حزب لا يبدو أجنبياً عن نسيج لبنان وأساطير لبنان الا حين يرفع الاعلام اللبنانية.
لا يمكن حل مشكلة أنه لا يمكن حل مشكلة هذا الله. لكن الاشكال بحد ذاته هو طبيعة حزب الله نفسه، أي واقعة أنه لا يمكن لحزب الله أن يخرج من طبيعته تلك، وما عاد يمكنه أن يعيش فترته الذهبية (1996ـ2000) يوم كان الاجماع على سلاح المقاومة عقيدة رسمية تعتمدها الدولة، حتى الكنيسة، ويقرّ بها الركب السيادي أو الاستقلالي ولو على مضض أو بتبييت عكس ما يقول.

هذا الأصل في الأزمة، وهذا المحور الذي تتحرّك حوله الأزمة، لا يبقيان بعد ذلك من جدوى للسؤال عن لحظة «الذروة»، فنحن لا نحتاج الى مثلها كي نقيس عليها، قبل وبعد. ليس ثمة لحظة تفجعنا وتدمينا، ثم نتحسر على ضحاياها ونتنفس بعدها الصعداء ونعزي النفس أو نمنيها بأن الكارثة صارت وراءنا وأن الحي أبقى من الميت وأنه مكتوب علينا أن نعيش معا وأن المياه ستعود الى مجاريها ولو بعد حين.

فإلى أي مجار يمكن مثلاً أن تعود المياه؟ لنفترض أن مسعى، اقليمياً أو دولياً، سينجح في مدّنا بفترة، لا يستهان بها، من التهدئة، وبهدنة مريحة تقنّن العنف اللفظي والجسدي، فهل مطلوب بعد ذلك أن نعود الى «ما قبل 12 تموز 2005»، وما نفع ذلك؟

أم أن المطلوب هو أن تعود المياه الى لحظة «التحالف الرباعي» أو الى لحظة ما قبله، أو الى ما قبل مبارزة 8 و14 آذار الجماهيريتين؟

وبالعودة الى الوراء، هل بمقدورنا «الرجعة» الى ما قبل جريمة 14 شباط 2005؟ ذلك هو السؤال. لكن شرط الاجابة عنه هو أن نعرف من ربح أهلياً ومن خسر أهلياً جراء تلك الجريمة، وليس فقط اجلاء ملابسات الجريمة، وهوية الموحين والمعدّين والمصمّمين.

أي طائفة اقتربت أكثر من سواها كي تكون مركز الثقل في البلد مع هذه الجريمة، وأي طائفة ابتعدت عن مركز الثقل يومها؟
وفي المقابل: أي طائفة قادرة اليوم على تقديم تصور للتسوية، يعتمد أكثر من سواه للخروج بتسوية شاملة؟

في السؤالين، ليس من مهرب من اعتبار الأمر التالي، وهو أنه لا تسوية الا على قاعدة غالب ومغلوب. أن لا يكون ثمة غالب ومغلوب فتلك هي الأزمة حين تراوح مكانها. التسوية هي أن يبرز غالب يضحي بقسم من غلبته، لا بها كلها، وأن يبرز مغلوب، يطالب المشاركة انطلاقاً من وضعه هذا، ومن دون أن يتمسكن، كما لو كان «مغلوباً على أمره».

مصادر
السفير (لبنان)