يتشكل، يوماً بعد يوم، خطاب سياسي عربي مهيمن، ينشره الإعلام، ويساهم في صوغه ليبراليون وقوميون ويساريون (كلهم سابق) يستعير مفاهيمه من أطروحات طائفية، بعد تغليفها بشعارات وقيم انسانية مثل الحرية والديموقراطية والاستقلال والسلام. خطاب عاجز عن التعبير عن التعقيدات السياسية والاجتماعية.

أطلق الملك عبدالله الثاني عبارة «الهلال الشيعي» على المنطقة المعروفة تاريخياً بالهلال الخصيب، وهي التسمية الجغرافية للمنطقة العربية الممتدة من العراق الى لبنان، مررواً بسورية وفلسطين والأردن.

بعدما كان الصراع في هذه المنطقة بين شعوبها من جهة والاستعمار واسرائيل من جهة أخرى، أصبح، بالتعريف الجديد، صراعاً بين مكوناتها المذهبية والطائفية التي تترجم حروباً أهلية في العراق، وربما في لبنان من جديد. والمساعي الأميركية لتعميمها على سورية غير خافية على أحد.

ومن دون أن يتضمن التعبير دعوة للتصدي المذهبي لهذا الهلال الذي «يسعى المجوس»، أو «الفرس»، بتعبير قومي يتضمن الاحتقار للايرانيين، فإن مجرد اطلاقه يضمر ذلك.

في الخمسينات من القرن الماضي شكل الأميركيون حلف بغداد الذي كانت ايران الشاه تضطلع بدور قيادي فيه (على رغم شيعيتها) فضلاً عن الدور الكبير لتركيا (السنية) وصولاً الى باكستان، من دون أن ننسى التحالف الهاشمي أي العراق والأردن، مهمته التصدي للمد القومي القادم من مصر. لكن الحلف فشل بعد ضرب قلبه العراقي ووقوف دمشق ضده، وتراجع لبنان برئاسة كميل شمعون عن الانضمام اليه، بعد أحداث عام 1958. بمعنى آخر، نستطيع القول ان التأثير الايراني في المنطقة ليس مستجداً، والجديد فيه خطابه الماضوي ووقوف طهران ضد اسرائيل، وهذا سبب رئيسي للعداء الأميركي للجمهورية الاسلامية.

هي السياسة، إذن، مرة تلبس لباس امبراطور أو زعيم طائفة، ومرة لباس جنرال مهرج، وتتكرر الأحداث المأسوية الى حدود الملهاة والعبث. والهدف واحد: تفكيك المنطقة، بالاعتماد على صراعاتها التاريخية، وما تفرزه من أحقاد وتخلف. وتؤسس خطابها المناسب (أصبح مسيحيو لبنان خلال الحرب الأهلية الشعب المسيحي، بتعبير «القوات اللبنانية»، والشيعة اليوم اصبحوا مجوساًَ وفرساً ومناذرة، بتعبير جنبلاط وبعض اليساريين).

واللافت، وسط هذه المأساة التي تلف العالم العربي ان الساعين الى تفتيت المنطقة يجهرون بهدفهم، فيأتيهم الرد بمزيد من الشعارات الفارغة من اي محتوى. يعلن جون بولتون ان «العراق الموحد ليس من مصلحة الولايات المتحدة. مصلحتنا ان لا يكون دولة فاشلة أو ملاذاً للارهابيين، سواء كانت واحدة أو ثلاثاً. يقودها الشيعة أو اي ائتلاف» (لوموند).

لم يكن بولتون مضطراً الى توضيح الاستراتيجية الاميركية أكثر مما فعل. الواقع كفيل بذلك. مئات القتلى والجرحى يومياً، تهجير طائفي منهجي. لغة خارج العصر، تستعير خرافات قديمة. تفتي بقتل المخالف والمعارض. تخفي وراءها الفعل السياسي الحاضر. تستحضر الماضي الدموي البائس. تحوله الى صورة لمستقبل «زاهر». لغة تصوغ دستوراً حديثاً لكيانات طائفية قبلية تتحكم فيها سلطة المقدس. باسم هذا المقدس الذي يبرر كل شيء يصبح العراقيون «مكونات» لم يفلح التاريخ، ولا الجغرافيا، ولا المصالح المشتركة، ولا التزاوج، ولا القمع في تحويلها الى شعب. ويصبح لبنان، على رغم كل ذلك تجمع طوائف و «الهلال» خطراً على «الأمة»... وعلى اسرائيل، على ما يقول أفيغدور ليبيرمان، وشمعون بيريز ضيفاً عزيزاً على الدوحة.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)