بعد الاستقلال في النصف الثاني من القرن الماضي وبعده،وبروز ما سمي ب “الدولة الوطنية”، وما تلاها من كوارث وأزمات واخفاقات في مختلف الصعد، ولدت على السطح الكثير من النظريات والتحليلات والأفكار لتفسير ظاهرة الأزمة وفهمها. بعض هذه النظريات أرجع السبب في ذلك الى النظام الأبوي ( البنية البطركية) للمجتمع العربي، والبعض الآخر ارجع تخلفنا وهزائمنا المتواصلة الى ما يعتبر ب (جذور الاستبداد) الذي تحفل به الدولة المشرقية تاريخياً. وجاءت تحليلات الماركسيين أيضاً، لفهم تخلفنا وتراجعنا وهم يعتبرون أنفسهم آباء التحليل السياسي الاقتصادي، وقالوا بأن أصل البلاء يكمن في الاقتصاد الريعي، أو النمط الآسيوي للانتاج وعدم وجود نظام الطبقات في المجتمع. ويقترب بعض المنظرين من هذه الأفكار بقدر ما يبتعد، لكنه يرجع هذا التخلف وأسبابه، الى طبيعة الفكر السياسي العربي التقليدي، وغياب النظرية السياسية العلمية، وسيطرة الطوباوية وتسلطها على الوعي العربي الاسلامي.

وهناك الكثير من أشكال هذه الأفكار التي تحلق بنا في فضاء وهمي لا يمت الى الواقع بصلة، كالتي سردناها آنفاً. لكن هذه التحليلات والنظريات تلتقي في منظومة واحدة وهي التنظير لأنفسنا من واقع غيرنا أو افتراض كما يقول د. خلدون النقيب أن المجتمع العربي يجب أن يستجيب لقوانين التطور الأوروبي.وهذه الاشكالية هي التي أثمرت فكراً مضطرباً غير متماسك من الناحية الواقعية والاستدلالية، في دراسة واقعنا العربي، والمقاربة في حل اشكاليته المزمنة، وأصبح من المستغرب كما يقول د. برهان غليون “استخدام المفاهيم والمقولات الحديثة مثل الأمة والطبقة والحزب والفرد والقانون، في الحديث عن السياسة في المجتمع العربي والاسلامي المعاصر”. ومن آثار هذه النزعة وتفرعاتها أيضاً العودة بمناهج في المجتمعات الاسلامية والعربية الى المذاهب الاستشراقية التقليدية المتمحورة حول الفيلولوجية، واستنتاج سلوك المجتمعات وممارستها التاريخية ونشاطها، وصراعاتها وتناقضاتها، من المصطلحات والمفردات وما تخفيه من معان متنوعة، متناسقة أو متناقضة، وجعل الكشف عن محتواها المعجمي الكلاسيكي، المدخل الرئيسي الى فهم سلوك العرب السياسي الحاضر وادراك مغزاه.

ويستطرد د. غليون في فقرة أخرى، وكأنه يشير الى آراء د. محمد جابر الأنصاري التي طرحها عن ظاهرة “اللادولة” في القسم الأول من كتابه (التأزم السياسي عند العرب) “مدلول أزمة المصطلح” فيقول: وهكذا حاول أن يفسر البعض مشاكل الدولة العربية الحديثة وضعف بنيتها المؤسسية من خلال ارجاع مفردة الدولة الى مصدرها المعجمي وهو دال، أي تغيّر. ويستنتج من ذلك سلوكاً عاماً ولا تاريخياً ثابتاً للعرب في علاقتهم بالدولة هو النظر اليها كتغيّر وليس كثبات، ويكتشف بالتالي سبب غياب مفهوم المؤسسة ووجودها معاً في ممارسة السلطة.

وهذا يعني أن تاريخ الدولة العربية لا ينبع من مراحل تكوينها الفعلي والملابسات والسياقات الجيوسياسية والاجتماعية، الداخلية والخارجية، التي نشأت فيها، ولكن من المفردة التي ارتبطت بها. وهذا يعادل قولنا مثلاً ان عقل العربي غير قادر على الحفظ والتركيز، لأن مصطلح الانسان يعني عند العرب كما يقال عادة النسيان، أو أنه جاء من النسيان.

نستغرب هذه الاستنتاجات التي طرحها البعض لواقعنا العربي في العصر الحديث، وتجاهل أخطاء الزعامات والنخب السياسية العربية، التي امتلكت الفعل والقرار واتخاذه، في الوقت الذي تم تغييب الشعوب من المشاركة في هذا القرار السياسي أو ذاك سواء عبر المؤسسات البرلمانية التي همّشت من الفاعلية الديمقراطية، أو غيرها من مؤسسات المجتمع المدني التي كان من الممكن أن تلعب الدور الايجابي، لو كان لها صوت مسموع، لا مقموع في المجتمع، هذا بافتراض وجود مثل هذه المؤسسات، أما في حالة غيابها، فسيكون تحميل الجذور المجتمعية والخلل السوسيولوجي (القاع)، بالمجتمع العربي خطاً بيّناً، يقع فيه الباحث من خلال هذا الاستنتاج، فالقرار السياسي العربي بيد هذه النخبة أو الزعامة، واختيار القرار الصائب أو “الخائب” ارادة وفعل، تستطيع وتملك البدائل للتعامل مع القضايا والاشكالات، ومقومات النهوض، وأسباب الاخفاق، وكوامن الضعف وعوامل تحقيق التقدم والمكاسب الحضارية، ومن غير الممكن أن تختار الزعامة السياسيّة، الاستبداد، والقهر، والتسلط ثم تفتش عن الأخطاء، من خلال تحميل الجذور التاريخية المترسبة في هذا المجتمع أسباب واخفاقات هذه الزعامات.

لقد استوردت الدولة التقليدية، ثم الدولة الوطنية بعد الاستقلال، النظم، والأفكار، والبرامج الغربية، وبعض هذه الدول طبقت العلمانية في جانبها القهري الاستبدادي، ولذلك “فإن الطابع القمعي للدولة العربية القائمة ليس التعبير الصريح أو المبطن، عن بقايا تراث الاستبداد الشرقي الذي تجسده الدولة السلطانية، وأقل من ذلك الثمرة المباشرة لإرادة الأشخاص أو العقائد والبرامج السياسية والاجتماعية المرتبطة بمجموعات الحكم المتبدلة، انه بالعكس من ذلك، التعبير عن التحول البطيء في طبيعة الدولة الحديثة ذاتها أو دولة التقدم والتحديث.

ومن هذه المنطلقات أثمرت هذه السياسة فكراً مغايراً لثقافة الأمة وموروثها الحضاري، ونشأ عن ذلك اضطراب سوسيولوجي، بعد اقصاء المرجعية الذاتية والهوية الوطنية، وتهميش دورها في صياغة نموذجها الفكري والسياسي، النابع من ذاكرتها الحضارية في الميادين المختلفة، ونتج عن ذلك فشل ذريع في البرامج والخطط في مستويات عدة. وما نشاهده من مظاهر التقدم والتنمية التي تحققت نسبياً في بعض هذه الأقطار العربية ما هي الا أمور سطحية لا تمس الجوهر أو الذات الفاعلة، وأقصد بذلك الانسان العربي على اختلاف مستوياته الثقافية وطبقاته الاجتماعية، وذلك لأن مثل هذه التنمية وذاك التقدم، هي أمور تابعة ومرتبطة بالمركز الحضاري الغربي، سواء كنا نتكلم بنيوياً أو ثقافياً أيديولوجيا. فمثقفونا يمارسون أحلام يقظة في أسر الكلمات والمفاهيم والأيديولوجيات المجردة، مما يسقطهم في مزالق الاغتراب وهوة العزلة الاجتماعية واللافاعلية كنتيجة لكل ذلك. وطبقاتنا الاجتماعية ليس لديها وعي بكينونتها الطبقية في المقام الأول، فتمارس وظيفتها الاجتماعية عشوائياً وفق نمط فردي غارق في الغيبوبة الاجتماعية، تتقاذفه شتى الاتجاهات ومختلف أنواع الوعي الزائف، وكلها لا تعبر عن وعي يتمثل بحقيقتي الزمان والمكان، وبالتالي، تتحول الى كم بشري هامشي لا أثر اجتماعياً فعلياً له.

الأمة العربية بحاجة الى المراجعة والى الوحدة والى الرؤى المنطقية في القضايا الملتبسة والمعقدة للخروج من هذه الأزمات وازاحتها من الصدارة.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)