السفير

ابي حسن

الأستاذ طلال سلمان المحترم،
تحية طيبة،
بنهم أتابع افتتاحياتك الضاجة غيرة على العروبة، والطافحة هماً على مستقبلها، وخوفاً عليها من مخبوءات الأيام. وبما أني ولدت بلسان عربي وفي بلد غالبيته عربي الانتماء، فضلاً عن أن ثقافتي عربية، أسمح لنفسي بالبوح قليلاً بما يعتمل في طيات القلب ولواعج النفس، راجياً أن تصفح عن هفواتي التي أجد لها شفيعاً في هواجس أثقل من وطأتها أكاذيب «بعث» قَبَلي في بلاد باتت تشبه كل شيء عدا البلاد، وزاد من حدتها عصاب إسلامي ترتفع وتيرته طرداً مع تتالي الأيام.
كنت في طفولتي وفتوتي مفتوناً بشخصية نبينا محمد، وبرسالته التي زاد من هيامي بها قرآن كريم ونهج بلاغة لإمام عظيم؛ وكنت أجد هويتي إسلامية كما تعلمتها في بيئتي الريفية التي لم تكُ تعرف ثقافة التكفير والعنف، كما أنها لم تكن تحفل كثيراً ببناء المساجد التي تنامت كالفطر فيها في ظل نظام يرفع يافطة العلمانية(؟!). والمفارقة أن نسبة التكفير واستلاب الوعي أخذت تزداد فيها طرداً مع زيادة بناء المساجد التي لم يسعفها الحظ فتنجب لنا ابن رشد جديدا أو ابن خلدون جديدا قدر ما أنجبت لنا ابن تيمية مُحْدَثا بكل فتاويه. وكنت أؤمن بأن «بلاد العُرب أوطاني» الذي حفظناه (نشيداً) غيباً ونحن تلامذة صغار، وأغاني فيروز ووديع الصافي وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وسيد درويش وصباح فخري، إضافة إلى أشعار قيس بن الملوح والمتنبي وأبي فراس الحمداني ومن سلفهم ومن خلفهم من شعراء يلهجون بالضاد، كفيلة بأن تكون رابطاً وجدانياً وفكرياً يجمعني بابن المغرب العربي كما يجمعني بابن شبه الجزيرة العربية. غير أني لمستُ، مع مرور الأيام، كم هو الفرق شاسع بين مجتمعات قطعت شوطاً لا بأس به على طريق التمدن الذاتي فضلاً عما اكتسبته من رياح الحضارة الغربية وبين مجتمعات خارجة حديثاً من بداوتها، هذا إن لم أقل إن نفطها زادها بداوة عقلية (ثمة دراسة تفيد أن إحدى دول النفط، أنفقت منذ الفورة النفطية حتى الآن أكثر من أربعين مليار دولار على تسليح التنظيمات التكفيرية ونشر الجهل والتخلف باسم الإسلام وبذريعة المنافحة عن الشريعة الغرّاء، لكنها لم تنفق مليار دولار على مجامع البحوث العلمية وما شابه). وكانت صدمة معرفتي بهول الفارق الحضاري بين تلك المجتمعات وبين مجتمعات وَرِثت الخصوبة الفينيقية لا يفوقها صدمة سوى معرفتي، بعد أن بلغت سن الشباب، بعرب .1948 والسؤال الذي وجهته لنفسي: لماذا يُطلب مني التظاهر والتضحية لأجل فلسطين والاستعداد لتحريرها في حين ابن 1948 يحمل الهوية الإسرائيلية؟ لا بل إنه لم يشارك في الانتفاضة الأولى 1987! وقل الأمر نفسه في الانفصام الذي عانيت منه عند معرفتي بأن حرب تشرين لم تحرر الجولان، رغم نعتهم لها بالتحريرية، كما علموني على مقاعد الدراسة وأنا طفل!
الآن، لن نختلف حول جدية المشروع الأميركي المتعلق بالمنطقة المسمى الشرق الأوسط الجديد الذي قلت حضرتك فيه في افتتاحية سابقة ما معناه: «ان السرعة التي يتم فيها نجاح هذا المشروع تفوق تصور واضعيه». ولعلنا نضيف أن أدواته، مع شديد الأسف، عربية إسلامية (سنية درزية في لبنان، وسنية في فلسطين، وشيعية في العراق، مع عدم التعميم طبعاً)، تعتز بعروبتها وإسلامها.
طبيعي أني، ككثيرين غيري، أرفضُ هذا المشروع، لكن هل يكفي أن أعلن رفضي له حتى يوأد في مهده؟ سبق أن رفض آباؤنا سايكس ـ بيكو، ووعد بلفور، وتقسيم فلسطين، الخ... وورثنا عنهم كرهنا وبغضنا لتلك المعاهدات والتقسيمات قبالة إيماننا وحلمنا بفلسطين وعروبتها. وبالرغم من هذا نجحت تلك التقسيمات من دون أن يكون لسلَفنا (وخلَفهم) وآمانيهم أي أثر في ما يجري، هذا إن لم يكن بعضهم أداة لتطويع ما جرى. الآن، بافتراض أننا نلفظ تلك الاتفاقيات التي فرقتنا، لنأت ونلغها إن استطعنا! من ذاك الذي سيمنعنا؟ ما أسهل إلقاء التهمة على الغرب والاستعمار.. لا أقول هذا لأبرر ما جرى وما يجري وما سيجري، ببساطة أقوله، لأدلل أننا، من خلال استكانتنا لمنظومتنا الثقافية البائدة (إلا من وعينا ووجداننا) أعجز من أن نرفض أو نفرض... و«الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
من جانب آخر، يحق لي أن أسأل، ما الذي قدمته لنا العروبة بعد مضي ما يقارب القرنين من الزمن من ظهورها على المسرح الفكري، سوى الاستبداد والمجاعة والتخلف والعقم الممزوج بعطالة تاريخية، إضافة إلى هذه الأنظمة المهترئة الأشبه بالعصابات وقطاع الطرق التي اكتشفنا بألم شديد كم هي بحاجة إلى إسرائيل ووجودها بغية استمرارها؟ وكما أثبتت الأيام، تبين أنه يصعب فصلها ـ العروبة أعني ـ عن الإسلام ومنظومته الفقهية المعرفية التي هي الأخرى من خلال «اجتهادها وقياسها» وَفرت علينا العمل بالعقل إلى درجة لم تترك لنا حرية الدخول إلى منازلنا ودورات المياه وحتى مخادعنا الزوجية من دون أن تقدم لنا وصفة شرعية فقهية بذلك!. وقبل أن أطوي هذه الصفحة ينبغي لفت الانتباه إلى أن العقم الممزوج بعطالة تاريخية نجده في عدم وجود أي تأثير معرفي لابن رشد وابن خلدون ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ في وعينا الجمعي (تاريخياً). وأخشى ما أخشاه أن يكون ذلك العقم وتلك العطالة هما ما يفسران راهناً غياب أكبر حزبين شيوعيين كانا في العالم العربي (العراق والسودان) وزوالهما من حياة مجتمعاتهما التي صار يقودها رجال عمائم، من غير أن يتركا بصمة علمانية في وعي هاتيك المجتمعات!.

وبافتراض أنه يصعب فصل العروبة عن الإسلام، وهذا ما يؤكده أن وعي العربي مرهون بأن الله أعزّ العرب بالاسلام، وهذا حقه، لكن هذا الواعي أو ذاك (في مجمله) لما هو موعى به لا تزال قراءته للنص الإلهي (وحتى التراثي) أسيرة ماض لا يمضي، ورغم وعيه لألوهية النص بما فيه من متشابه لا يجد حرجاً من الأخذ، أحياناً، بظاهر متشابهه، غير آبه بمقولة «النص حمّال أوجه» التي كان من شأنها، في حال أُخذ بها، أن تخفف وطأة تدخل رجال الدين في شؤون حياتنا واستلابهم لوعينا وبالآتي طريقة تفكيرنا ونمط حيواتنا.
انطلاقاً من صعوبة فصل العروبة عن الإسلام، بتنا أمام مفهوم ملتبس للعروبة، إذ هي لا تقبل التجريد ولا تخضع للبراءة، وقد كان من ثمار ذاك الالتباس أن وُلدت عروبة بثوب إسلاموي اتشح بصفات لاإنسانية، تجلى ذلك في تراثنا من خلال النظرة الفقهية الإسلامية إلى اليهود والنصارى (العرب) كفئات ضالة ومغضوب عليها، لا بل مع الزمن صارت تشكو هذه الإسلاموية العروبية من نزوع مبالغ فيه من حيث تضخم الذات، على نحو لا تقوى عليه تلك الذات!. مثال ذلك شعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» الذي طرحه حزب البعث في القرن العشرين. وما كان البعث في سوريا والعراق، ومن قبله الناصرية في مصر يتجرآن على جَب ما قبلهما، لولا أن الإسلام جَب من قبلهما ما سلفه من ثقافات؛ وفي هذا الصدد أتذكر لك مقالاً قبل نحو عامين إبان أحداث دارفور في السودان تتحدث فيه عن التضليل الذي أُوقعتم به في شبابكم عندما قيل إن السودان عربي عن بكرته! وقل الأمر ذاته في الجزائر وفي سوريا الخ... ترى أليس جَبّ العرب للأكراد والامازيغ والأشوريين وغيرهم من قوميات متواجدة بين ظهرانيهم نزوعا لاإنسانيا؟ وهل كان بمقدور العروبة أن تَجِب ما جَبته لولا أن وجدت معيناً لها في مصطلحات إسلامية من قبيل (الجهاد، الرسالة، الغزو، وأشرف الدينين، وكنتم خير أمة، وربما النار والجنة، الخ...)؟.
أدرك أن الولايات المتحدة الأميركية وشركاءها ليسوا جمعيات خيرية، وآخر همهم التفكير في همومنا، غير أن المأساة (إن صح التعبير) أن القوى الممانعة لها في المنطقة أغلبها ذات طابع أيديولوجي جهادي إسلامي، ومع الاحترام الشديد لدماء الشهداء في هاتيك الأحزاب التي وعدت فصدقت، مقدمة الغالي والرخيص ضد العدو الإسرائيلي (وشتان بين من يضحي طمعاً بحور العين في الجنة وبين من يضحي طمعاً في حب البلاد والناس بمنأى عن نار وجنة كالأحزاب العلمانية)، إلا أن هذا لا يعني أنها المخرج المرتجى لحل مشاكلنا وهمومنا، فضلاً عن أنها أعجز عن أن تقدم لنا جواباً شافياً كافياً في ما يخصّ علة تخلفنا وتقهقرنا!
وبما أنني أتحدث حديث القلب إلى القلب، يحق لي أن أتساءل مجدداً: ما هي العروبة؟ وهل تقاس بنواياها ونوايا أصحابها ودعاتها أم بما يصدر عنها وعنهم من أفعال بما يترتب عليها من نتائج؟، ألم تثبت أحداث العراق الآن، ولبنان كذلك، أن العرب لم يصبحوا أمة بَعدُ؟ وهل كان بمقدور أي قوة مهما كانت عظمى أن تثير فتنة مذهبية في قوم حَالَ كونهم أمة حقاً؟! إن مجرد وجود إمكانية إثارة الفتن على أسس مذهبية ودينية ووجود الأرضية الصالحة لها، وعلى هذا النحو، إن دل على شيء فإنه يدل على أن العرب لم يخرجوا من عقلية القبيلة والبداوة بعدُ، وأمامهم طريق طويل كي يصلوا إلى طور الأمة!
انطلاقاً مما أسلفت أستطيع أن أسأل: هل هذا هو السبب في عدم تمكن العروبة من إنتاج الديموقراطية عوضاً عن الاستبداد الذي بات كأنه إحدى أهم خصائصها وركائزها؟ وهل أنتجت العروبة لنا مواطناً مصان الكرامة محفوظ الحقوق؟ وما الذي تبقى منها أو سيتبقى في ظل ثقافة العولمة؟ ومن ثم لماذا أنا عربي حصراً؟ لماذا لست فينيقياً، أو فرعونياً، باعتبار أن أحد أجدادي أتى هرباً من مصر إبان حملات التكفير الديني التي قادها البطل صلاح الدين الأيوبي؟ وماذا في العروبة من مغريات سابقة ولاحقة كي أرتضيها هوية هي وثقافة قريش بكل ما فيها من بداوة عوضاً عن الخصوبة التي منحتني إياها فينيقيا؟ ليت العروبة كانت كلها على شاكلة آل البستاني وساطع الحصري وزكي الأرسوزي وكمال جنبلاط وشكري القوتلي وعبد الرحمن الشهبندر وسلطان باشا الأطرش ومصطفى الغلاييني وصالح العلي وإلياس مرقص وياسين الحافظ، الخ... كي ألوذ في محرابها وأنافح عنها ما بقي فيّ حياة. وليت الإسلام الذي بتّ أخافه كان في مجمله على غرار الشيخ طاهر الجزائري والشيخ عبد الله العلايلي والإمام محمد عبده وسليمان الأحمد وموسى الصدر وجمال الدين الأفغاني وعبد الحميد الزهراوي وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد مهدي شمس الدين وفضل الله غزال الخ... كي أجده ملاذاً آمناً أهجع إليه كلما استبد بي القلق على المصير.
من حقك وحق القارئ أن تأخذا عني الانطباع الذي تشاءان، لكن أنا أيضاً من حقي أن أعبّر عن مخاوفي من عروبة إسلاموية تلتهمها رويداً رويداً إسلامية تكفيرية يقيم شيوخها في بلاد «دار حرب/كفر» أمنت لهم قوانينها ودساتيرها الأمن والأمان والحياة الحرة الكريمة التي لم يجدوها ولن يجدوها في بلدان تدين بدينهم، وتتجه إلى ذات قبلتهم وتنطق بلسانهم!. من حقي أن أخاف من الإسلام وأنا أرى كيف اختزلوه بحجاب، وكيف يثورون لأجل حجاب. من حقي أن أخاف من الإسلام وأنا أشهد كيف ينتفضون لإلغاء قانون يمنع رجم المسلمة حال اغتصابها.. من حقي أن أخاف منه وأنا أرى كيف يبحث رجاله في الكتب الصفراء عن فتوى بغية تكييفي مع هذا العصر، كان آخرها رد القرضاوي على حسن الترابي في ما يخصّ زواج المسلمة من كتابي (هل قلت كتابياً؟ يا للمصطلح ومدى تطابقه مع مفهوم المواطنة!)، فلقد وجد الشيخ القرضاوي «حجته» لدى ابن قيم الجوزية(؟!).
ختام القول، سيدي، في حال صدقت هواجسي وكانت هذه هي العروبة، وأتمنى أن أكون مخطئاً، وفي حال كان الأمل مفقوداً من إمكان إنتاج عروبة إنسانية ديموقراطية، يحق لي أن أقول: أعيدوا إلينا فينيقيتنا، فعلّ وعسى بمعونة من خصوبتها نتمكن من النهوض والمسير.
تقبلوا فائق احترامي واعتذاري عما بدر من هفوات.
(٭) كاتب سوري
المحرر: نحن في أزمة، بعروبتنا واسلامنا. هذا صحيح. لكن الحل ان نناضل لتصحيح مكامن الخطأ في التجربة، في ما نعتبره الصح. أما اليأس والهرب الى ماض أبعد من الماضي فليسا حلاً. انهما حل ـ مشكلة من الطبيعة ذاتها التي يشكو منها الأخ أبي.