ميدل ايست اونلاين >> معقل زهور عدي

لا يوجد في الواقع من طريقة للتخلص من فيروس الليبرالية الجديدة سوى بمواجهة نزعته العسكرية وهزيمتها.

في المرحلة التاريخية الراهنة لا يوجد ليبرالية وفق النموذج الذي يسوقه الليبراليون العرب الجدد، مثل تلك الليبرالية تبخرت في الواقع، تماما كما أن أخلاقيات الفروسية وقيم الاقطاعية لم تعد موجودة في أوروبا منذ انتصار الرأسمالية، لاتوجد في الحقيقة فلسفة عابرة للتاريخ ولكن فقط فلسفة ضمن التاريخ، الليبرالية التي أنتجت قيم الحرية والعدالة واحترام حقوق الأفراد والمساواة هي ليبرالية الطبقة البورجوازية الصاعدة، ليبرالية الثورة الفرنسية، ليبرالية رأس المال الذي تمرد على قيود القرون الوسطى وقيمها البالية، ليبرالية السوق والمنافسة وتحطيم الحواجز، يقول الدكتور برهان غليون في عرضه لتطور العلاقة بين الرأسمالية والليبرالية (على المستوى النظري هناك من دون شك ترابط بين المستويات الثلاث الاقتصادية والسياسية والأخلاقية لليبرالية بوصفها ايديولوجية الحداثة البدائية. لكن ما كان بذرة فحسب، في بداية المسار، سوف ينتج نباتات مختلفة تماما بقوة التحول التاريخي، وفي التجربة العملية.

فالرأسمالية التي كانت تنافسية بسيطة سوف تتحول هي نفسها إلى رأسمالية احتكارية، وسوف تفرز في مواجهتها حركة مجتمعية مناوئة تطالب بإخضاع الاحتكارات لقوانين تأخذ بالاعتبار مصالح الأغلبية الاجتماعية.)

ما نحن بصدده اليوم هو ليبرالية العولمة، ليبرالية رأس المال المتعولم، الذي يتجلى في الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، عابرة القوميات والقارات، التي تشكل نواة الاقتصاد العالمي الجديد بأذرعه الضاربة (منظمة التجارة العالمية، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي)، وأدواته السياسية والعسكرية (مجلس الأمن، حلف الناتو)، وهيئاته الرسمية والاعلامية (الثمانية الكبار، منتدى دافوس الخ..).

هذه الليبرالية ليست في الواقع سوى شكل مشوه لا يحمل من الليبرالية الأصلية سوى الاسم، ويمكن القول انها تمثل انتكاسة عن الليبرالية نحو قيم استبدادية وحشية لاعقلانية.ويرتبط ذلك بالمأزق التاريخي للرأسمالية التي استنفدت بالفعل طابعها التقدمي والانساني وأصبحت عقبة في وجه الحضارة والانسانية.

هذا الانتشار الأفقي للرأسمالية المعممة عالميا لم يكن يعني في أي وقت زوال طابعها الرجعي بقدر ما كان يعني اعطاءها وقتا اضافيا للبقاء على قيد الحياة لتصدر أزمتها نحو أرجاء المعمورة وتتضفي على تلك الأزمة طابعا عالميا بالتدريج.

الليبرالية الجديدة لا تواجه اليوم تحدي المجتمع الاشتراكي بل تواجه مكتسبات الحركات الاجتماعية والنضالات العمالية على امتداد قرن ونصف القرن، في كل من بلدان أوربة وأمريكا الجنوبية وآسيا وافريقيا، وهي تواجه قيم الليبرالية القديمة في ذات الوقت.

(العولمة، من خلال السياسات الليبرالية الحديثة التي تعتمد عليها، إنما ترسم لنا صورة المستقبل بالعودة للماضي السحيق للرأسمالية. فبعد قرن طغت فيه الأفكار الاشتراكية والديموقراطية ومبادئ العدالة الاجتماعية، تلوح الآن في الأفق حركة مضادة تقتلع كل ما حققته الطبقة العاملة والطبقة الوسطى من مكتسبات. وليست زيادة البطالة، وانخفاض الأجور، وتدهور مستويات المعيشة، وتقلص الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة، وإطلاق آليات السوق، وابتعاد الحكومات عن التدخل في النشاط الاقتصادي وحصر دورها في "حراسة النظام"، وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين المواطنين كل هذه الأمور ليست في الحقيقة إلاّ عودة لنفس الأوضاع التي ميزت البدايات الأولى للنظام الرأسمالي إبان مرحلة الثورة الصناعية (1750- 1850). وهي أمور سوف تزداد سوءاً مع السرعة التي تتحرك بها عجلات العولمة المستندة إلى الليبرالية الحديثة.) ( من كتاب فخ العولمة بيتر مارتين وهارلد شومان - 1996 ).

ما هو أسوأ من ذلك كله هو النزعة العسكرية التي رافقت انبعاث الليبرالية الجديدة، لقد أصبح ضروريا الكف عن النظر للاستراتيجية الأمريكية في التدخل واستعمال القوة بوصفها نتاج تيار متطرف داخل الادارة الأمريكية، وبناء الارتباط بين انبعاث الليبرالية الجديدة بوصفها نظرية وفلسفة رأس المال المتعولم وبين التفاقم المطرد للنزعة العسكرية في التدخل واستعمال القوة. فحسب سيوم براون يمكن النظر الى الاستعداد الراهن لاستخدام القوة أداة من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية على أنه الحلقة الأخيرة من سلسلة التحولات الكبيرة الأربعة التي مرت بها استراتيجية الأمن القومي منذ عام 1945 وهناك حقيقة وجود منحى تطوري ضمن هذه الاستراتيجية بمعنى ان نزعات محددة مثل التدخل العسكري يمكن بسهولة رصد تطورها من الادنى نحو الأعلى وبالتالي رسم خط بياني لها يسمح بتوقع احداثياتها (موقعها) في السياسة الامريكية لفترة قادمة دون خطأ كبير ويترافق هذا التطور بصورة لافتة للنظر مع العولمة.

في الماضي تعايشت الليبرالية مع نزعة الاستعمار والتوسع بفضل مزاعم نقل الحضارة والديمقراطية ومبادئ الثورة الفرنسية في التحرر والمساواة كما في حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798، وتحاول الليبرالية الجديدة استعادة خطاب مشابه لتغطية التدخل العسكري الوحشي في اماكن متفرقة كان آخرها العراق، والتاريخ يستعيد نفسه هنا كمهزلة وليس كدراما، لكنها بالحق مهزلة مغموسة بالدم.

على أية حال المسألة المهمة هي وعي العلاقة بين العولمة والليبرالية الجديدة من جهة ووعي جوهر الليبرالية الجديدة كانحطاط عن الليبرالية القديمة وليس كوريث شرعي لها، وانسداد الأفق أمام بعث أفضل مافي القيم الليبرالية في ظل مرحلة (عسكرة العولمة). ومثلما يقول الدكتور غليون (ليس من قبيل الصدفة أن يكتشف مفكر ليبرالي بارز منل جون راويلز صاحب نظرية العدالة أن نظريته تنسجم تماما مع "نظام اشتراكي ليبرالي"، تكون وسائل الانتاج فيه خاضعة للملكية العامة بينما تدار الشركات من قبل مجالس عمالية، وحيث لا يمكن للقرارات العامة أن تؤخذ من دون مشاورات ديمقراطية حية.)

فحتى الديمقراطية الحقيقية لم يعد في الامكان تصورها ضمن نظام الهيمنة الأمريكي الحالي على العراق والمنطقة العربية.

لقد أصبح واضحا لكل من يريد أن يبصر أن الديمقراطية التي حملتها أمريكا للعراق هي ديمقراطية الطوائف والأعراق، ديمقراطية بعث وتغذية الانقسامات العمودية في المجتمع وشحنها بالعنف وتأطيرها وقوننتها ودفع المجتمع نحو الوراء وتكبيله كيلا يتمكن من النهوض وبناء دولة المواطنة لفترة طويلة.

كل ذلك ليس خطأ تكتيكيا قابلا للاصلاح في السياسة الأمريكية لكنه مرتبط أعمق الارتباط بمدى الانحطاط الذي وصلته الليبرالية الجديدة، وطابعها الرجعي العنيف.

لا يوجد في الواقع من طريقة للتخلص من فيروس الليبرالية الجديدة (كما سماه الدكتور سمير أمين) سوى بمواجهة نزعته العسكرية وهزيمتها، والعمل في الوقت ذاته على بناء تحالف واسع وأممي لتحويل هزيمتها العسكرية الى هزيمة فكرية وسياسية وأخلاقية وتاريخية، وتلك مهمة لامناص من تأسيس وعي فكري وسياسي من اجلها، وعي مازال جنينيا بعد.