من الصعب التعليق على التصريحات العراقية الأخيرة الموجهة لدمشق، لأنها تدخل في مجال "الغيب السياسي" الذي شهد طفرة واضحة بعد احتلال العراق، فهذه الاتهامات المتكررة ربما لا تضيف شيئا على قاموس الخطاب السياسي المستمر من أربع أعوام، لكنها في المقابل تضفي على المشهد السياسي شكلا غير مألوف مع تشابك الاتهامات بزيارة الرئيس العراقي جلال الطالباني لسوريا الشهر الماضي، وباحتمالات عقد مؤتمر لدول الجوار يثير دخان الاتهامات قبل موعده، وأخيرا ما يطفو على سطح العلاقة بين طهران ودمشق بشأن اللاجئين العراقيين.

لكن ترابط الأزمات لا يضع أمام أي قارئ أجوبة مقنعة لمدى تلازم العنف في العراق مع المسائل الأمنية المرتبطة في سورية، لأن هذا الموضوع يسير وفق اتجاهات متباينة تحكمها بالدرجة الأولى الأزمات السياسية التي تعصف بالحكومة العراقية، فهذه الحكومة هي نفسها التي استقبلت وزير الخارجية السورية نهاية العام الماضي، وهي أيضا ضمن التشكيل العام للدولة العراقية التي تضم رئيس الجمهورية الذي زار سورية. وحكومة المالكي أو من سبقها هي التي راقبت جموع العراقيين تغادر باتجاه سورية ربما في أكبر موجة نزوح منذ حرب 1948 في فلسطين .. وهذه الحكومة هي التي تتحدث اليوم عن إثباتات" حول تغاضي سورية عن "تسرب" المسلحين إلى العراق.

وسورية في المقابل لم تعلن نفيها فقط، لأنها كشفت بعد اقل من 24 ساعة على الاتهامات العراقية عن احباط محاولة تسريب أسلحة باتجاه لبنان، والأمر الأساسي ان هذه الأسلحة قادمة من العراق. وهذه الخارطة المتناقضة حول المسائل الأمنية توضح أن القاعدة السياسية مازالت مهتزة، وأن مسالة العلاقة بين البلدين مرهونة بعمليات التغيير في الجغرافية التي بدأت مع احتلال العراق، وماتزال حتى اليوم دون حسم واضح.

وإذا كانت العلاقة بين البلدين عاشت أياما عصيبة في الماضي، لكن ما يحدث اليوم مختلف تماما لأنه لا يقوم على مسالة التنافس السياسي، أو الاختلاف في الرؤية الاستراتيجية بين دمشق وبغداد، فما يحدث في العراق هو خروج للسياسة من دائرة الدولة ودخولها ضمن أشكال من "الإدارات" السياسية التي نجمت عن تشتت الدولة، وإعادة رسمها على قواعد افتراضية تجمع المجتمع وفق صور الديمقراطية، وتتجاوز الدولة من خلال تهميش دورها كمعبر حقوقي عن المجتمع، ووفق هذا السياق لن نستغرب تضارب تصريحات الوزراء في العراق، أو اختلاف الرئاسة في الحكومة، أو حتى في تفسير الشان السياسي بأدق تفاصيله. فهذه الخلافات التي يمكن أن تحدث داخل أي دولة أخرى، نراها اليوم تنتقل لترسم التوجهات العامة وحتى طريقة التعامل مع المجتمع، وهو ما دفع البعض لاتهام حكومة المالكي بانها تأجج الصراع المذهبي، أو جعل الرئيس العراقي ينفي بعد عودته من دمشق انه ناقش موضوع اللاجئين الذي يرى البعض أن عامل ضغط على الحكومة.

صورة الدولة اليوم هي المساحة المفقودة في العلاقة بين دمشق وبغداد، ويتم تعبئتها عبر العامل الدولي أحيانا او الإقليمي أحيانا أخرى أوحتى عبر "المسألة الأمنية" التي تبدو أنها أكثر المسائل إثارة للضجر مقارنة بما يحدث كل دقيقة في شوارع العراق.