كغيرها من القصص التي كانت تمر علينا في طفولتنا، تبقى حكاية دائرة الطباشير القوقازية حكاية أطفال صغار، لا يمكن سحبها إلى عالم الكبار، خاصة عالمهم السياسي، وبالأخص عوالم السياسة العربية حيث لا اعتراف بأخلاقيات.
ومع ذلك أرى أنه يمكنني استخدامها للنظر إلى حالة الأزمة الراهنة في لبنان. فلو كان واحد من الأطراف اللبنانية المتصارعة، في الشوارع وفي ساحات الإعلام، هو الأم الحقيقية للبنان لما كان قبِلَ أن يستمر الوضع إلى ما وصل إليه يوم الثلاثاء 23 كانون الثاني. تلك الحكاية تخبرنا أن الأم الحقيقية لا بد أن تفلت يد ابنها خشية أن يصيبه سوء أو أذية إن استمرت في شده من يد غريمتها. مضحية بأمومتها في سبيل سلامة ابنها الطفل.

كان يمكن أن نفهم فقدان الرحمة في اللعبة اللبنانية لو اقتصر الصراع فيها على أطراف إقليمية ودولية، فهؤلاء في أحسن الأحوال ليسوا أكثر من «أشقاء» أو «أصدقاء» وليسوا أمهات. ومن المفهوم أن نرى كلا من هذه الأطراف الخارجية يشد لبنان صوبه، رغبة في الكسب منه أو نكاية في الآخر وإضرارا له. لكن الغرابة في الأمر واستعصاء فهمه أن تستمر الأطراف اللبنانية المتصارعة، بكل ما أوتي كل منها من قوة طائفية أو شوارعية أو خارجية، أن تستمر في متابعة الشد من دون الخشية أن يتقطع لبنان بين أيديهم. ما كنا استعنا بحكاية دائرة الطباشير القوقازية لمقاربة حالة الصراع اللبناني لو أن الأطراف المتنازعة اكتفت بالقول بأن دوافع مواقفها وتحركاتها هي مصالحها الحزبية أو الطائفية أو غير ذلك. فالجميع يدعي أنه يقاتل دفاعا عن لبنان وأمومته أو أبوته له. غير أن الاحتكام إلى مغذى الحكاية لا يرينا صدق هذه الادعاءات.
راوي الحكاية لا يهتم لأمر الطفل، بل يبرز لنا فقط حكمة القاضي وتضحية الأم الحقيقية. كذلك فإن جميع الحاضرين والمتابعين والمتفرجين، وحتى القاضي، لا يهمهم ما سيصيب الولد، ويقبلون بالمخاطرة بسلامته وآلامه في سبيل إرضاء فضولهم بمعرفة الأم الحقيقية. فهي الوحيدة التي لا تهتم بإثبات الحقيقة، ولا بما سيقوله الإعلام عنها، بل ينصب كل همها على سلامة ابنها.

في زمن الرواية لم يكن العلم قد توصل بعد إلى اختبار الـ DNA لنتثبت من حقيقة الأم حتى لو لم تبادر إلى إفلات ابنها، أو تأخرت بالقيام بهذا الفعل. لكننا الآن نستطيع أن نحتكم إلى هذا العلم ونعتبر أن الأم الشرعية، ولو لم تكن الحقيقية، للبنان هي السلطة الحالية المستندة إلى الأكثرية النيابية. ويمكننا الطلب من المعارضة، حتى وإن كانت واثقة من أمومتها للبنان، أن تنتظر حتى ظهور نتائج اختبارات الـ DNA عبر الانتخابات النيابية المقبلة، حتى لو لم تكن مبكرة، لتبيّن لنا جميعا أنها الأم الشرعية وأنها الأولى برعاية لبنان من غيرها، حتى لو كانوا شركاء جزئيين في أمومتهم.

الأم الحقيقية ترفض حكم القاضي بإخضاع ابنها لتجربة عنفية قد يتأذى منها. فإن كانت الغاية تبرر الوسيلة، أحيانا، فإنها لا تبرر استخدام كل أنواع الأدوات. فقطع الطرق بقوة حرق الإطارات وإقامة المتاريس الإسمنتية والترابية في وجه الغير بما فيهم أكثرية، أو أقلية، صامتة لا تقف مع أي من الطرفين المتصارعين، هو عنف صريح. لن أغامر بتقديم تحليل للوضع المأساوي الذي يعيشه لبنان في هذه الفترة، ولا أعتقد أنه بإمكاني إضافة كلمة على ما قاله الكتّاب اللبنانيون. لكن بالمقابل لن أداري رأيي في تخطيء المعارضة، أقله في أن مطالبها لا تستأهل ولا تحتمل هذه الأساليب التي تعتمدها، ولا هذه الخطابات التي تطلقها. وهذا لا يعني أني أقف مع السلطة وقوى 14 آذار، فهذا لا يحق لي. ومع ذلك أرى أن السلطة يمكنها أن تثبت، كما المعارضة، أنها الأم الحقيقية للبنان، ليس عبر تسليم السلطة بل عبر مقايضة بسيطة وواضحة: المحكمة الدولية مقابل التنازل عن الأكثرية الوزارية. من دون اللجوء إلى الوزير الملك، أو انتخابات رئاسية مبكرة. ليس لكي تثبت أنها الأم الحقيقية فحسب، فهذا يهم الإعلام فقط، بل لتحمي لبنان (كما في الحكاية) من خطر أن يتملخ بين أيديها وأيدي غريمتها المعارضة. فالخطر الذي أنبأتنا به أحداث يوم الثلاثاء أظنه أكبر من أي خطر يمكن أن يأتي عبر ثلث ضامن أو معطل.

يدفعنا رواة حكاية دائرة الطباشير (بمن فيهم بريخت) لأن نستنتج أن الأم الحقيقية، أو الفعلية أو الشرعية، هي من تفلت يد الولد. لكن هل يمكننا أن نستنتج أن نقيض ذلك هو أيضا صحيح؟ فإن لم تفلت أي من المرأتين الولد، فهل يعني ذلك أنه ليست أي منهما هي أمه الحقيقية، وأن كلتيهما كاذبتان. وأنه قد لا تكون أي من هما أمّاً بالأصل، أو أن الولد ليس له أمّ تطالب بحضانته؟
وقد تكون الحكاية اللبنانية مختلفة جذريا عن الحكاية القوقازية وأن الموجود داخل الدائرة ليس الولد بل هي الأم، وأن المتنازعين الذين يتمالخونها هم الأولاد، أو أولاد. وهذا سيتطلب منا الرجوع إلى فرويد وأوديبه، والتخلي عن بريخت وحكم النبي سليمان.
وعلى كل الأحوال أعتقد أنه يتوجب على النخبة الثقافية في لبنان أن تحاول ممارسة دور القاضي وأن ترسم خط الدائرة حتى لو اضطرت أن تفعل ذلك بأجساد أفرادها، وليس فقط بأقلامهم، ليحاموا ويحموا لبنان إن كان هو الولد أو كان الأم.

مصادر
السفير (لبنان)