لم تعد مسألة النزوح من العراق ظاهرة سكانية فقط، أو نتيجة لاشتداد العنف، فعمليات التنقل شكلت محورا داخل العراق وخارجه وبشكل يوحي ان عمليات الفرز السكاني تتم على إطار خارج عن مفهوم الاتتماء لـ"الدولة"، حيث تبدو حركة النزوح ذروة الأزمة لفشل المفهوم الحديث للدولة على خلق عملية تفاعل حقيقي مع المجتمع.

بالطبع فإن العمليات العسكرية عادة ما تخلف "نازحين"، لكن الظاهرة التي نشهدها في العراق بدأت بعد الأعمال القتالية، وهي تشكل صورة متكررة لما حدث في نهاية الحقبة العثمانية، عندما بدأت القرى في بلاد الشام عموما تخلو من سكانها رغم عدم وجود حروب، وكانت الهجرة توضح أن السلطنة العثمانية فشلت في خلق انتماء اجتماعي عام على الأخص بعد ان بدأت في عملية تطوير ذاتها، والسبب الثاني هو احتكاك المجتمع بالحضارة الغربية.

بالطبع فإن العنف في العراق عامل أساسي في عمليات الهجرة الجماعية والنزوح، لكنه جاء بعد عامين على الاحتلال ليبلغ ذروته مع ظهور النتائج الحقيقية لانهيار الدولة، واعطائها سمتها الجديدة كمؤسسة خاضعة للمرجعيات المذهبية والعرقية، بدلا من أن تكون الجامع لكافة فئات المجتمع.

هذه الصورة لم تضح بشكل سريع لأن رغبة العراقيين بعد الاحتلال كانت واضحة جدا، وعبرت عنها مختلف التيارات في بقاء "العراق" موحدا.. لكن الرغبة سرعان ما اصطدمت بالفوضى نتيجة عدم وجود مؤسسة "دولة" جامعة قادرة على تكريس الانتماء والمواطنة، وبات واضحا خلال تعاقب الحكومات أن "جهاز الدولة" تشكل دون "الرغبة" الصادقة لكافة أبناء المجتمع العراقي ... وزاد من تشتت الانتماء العنف الذي ظهر وكأنه "حرب ظلال" لا يُعرف من ينفذها أو يقودها. مما أعاد من جديد الولاءات القديمة بشكل سريع.

وربما من المجحف عدم رؤية تاريخ الدولة الحديثة في العراق أو الشرق الأوسط عموما، لأنها مسؤولة بشكل أو بآخر عن حالة الفصام التي بدت واضحة في النموذج العراقي، وأدت إلى انهيار الدولة بهذا الشكل. فالمجتمع الذي نظر إلى مؤسسات الدولة على أنها امتداد لسلطة الانتداب الذي أوجدها بالفعل، فإنه أيضا تعامل وفق رؤية نمطية لم تتطور نتيجة التقلبات السياسية، أو عدم اتضاح مفهومها بشكل عام. فهي في النهاية تملك شرعية استخدام القوة، وفي المقابل لم تتكرس في الثقافة الاجتماعية ضرورة التعامل مع الدولة على أنها جرء من النسيج العام للوطن، وأنها المعبر الحقوقي عن المجتمع.

النموذج العراقي اليوم لا ينطبق على ما يصرح به المالكي من "ديمقراطية العراق" متهما دول الجوار بـ"استنساخ" التجربة الديكتاتورية .. لأن المسألة لا تتعلق بالديمقراطية فعندما تنهار الدولة فإننا نفقد المؤسسة المعنية بالحفاظ على الديمقراطية، فبدون الدولة تنتهي كل مفاهيم الحداثة والمواطنة وغيرها .. ولن تكون الديكتاتورية بديلا، لكن النموذج العراقي ليس بديلا أيضا .. وتكريس مفهوم الدولة في الثقافة الاجتماعية ربما يكون مفتاحا لأزمة رافقتنا من "عصر النهضة" وحتى اليوم.