الاتحاد / حياة الحويك عطية

لا، لم يكن الرئيس جاك شيراك - كما قالت “نيويورك تايمز” - تحت تأثير الجلطة الدماغية التي أصابته العام الماضي عندما تحدث عن الموضوع النووي الإيراني. ولم يكن أيضاً يحاول أن ينهي عهده بموقف يسجل له على أنه منع الحرب عن طهران. لم يكن ناسياً أو مهملاً لأمن فرنسا كما اتهمته زعيمة الحزب الشيوعي الفرنسي ماري جورج بوفييه، ولا مرتكباً خطأ فظيعاً كما وصفه أحد مستشاري مرشح الرئاسة نيكولا سركوزي، أو قلقاً بإجبار إيران على الاعتراف ب “إسرائيل” كما قال رجل سركوزي الآخر ميشال بارنييه. كان شيراك في أتم حالات صحوه وانسجامه مع نفسه، كفرنسي وكأوروبي. ولا بد من العودة قليلا إلى الوراء لتبين سلسلة المواقف التي أوصلت إلى هنا.

في عام 2003 كانت باريس على رأس المساعي الدبلوماسية الأوروبية التي تهدف الى جعل الايرانيين يتراجعون عن مشروعهم. وفي العام 2006 دعمت الدبلوماسية الفرنسية قرار العقوبات في الأمم المتحدة. أما في العام 2007 فقد شهدنا ثلاثة مواقف: الدعوة يوم 17 يناير/ كانون الثاني إلى إدماج إيران في حل قضايا المنطقة، ثم قرار إرسال مبعوثين إلى طهران الذي ألغي تحت ضغط انتقادات حادة من قبل دول حليفة، وأخيرا تصريح الرئيس شيراك ل”نيويورك تايمز” و”هيرالد تريبيون”، الذي اعتبر قنبلة، ومنعطفا تاريخيا خطيرا وحاسما في الموقف الفرنسي. فما الذي حدث خلال هذه الفترة على الجوانب الدولية والاقليمية، اذ لا ايران ولا فرنسا جزيرتان مفصولتان عن العالم.

ثلاثة أمور استراتيجية مهمة تطرح نفسها في اساس هذه القراءة: النفط، الغاز، والجيوبوليتيك، يضاف اليها تطور الاوضاع السياسية في مناطق معينة، خاصة العراق. فلا يحتاج الامر الى التذكير بان واشنطن باحتلالها العراق عسكريا وتواجدها العسكري - السياسي في الخليج العربي، قد سيطرت على الجزء الاكبر من النفط العالمي، وتمكنت من الامساك بحنفيته مهددة بها كل القوى الدولية التي تحلم بدخول نادي الاقوياء أو بقائها فيه عبر انتمائها الى المجمع الصناعي. لكن ثمة ثلاث مناطق اخرى من العالم النفطي ظلت خارج سيطرتها هي: بحر الشمال وامريكا الجنوبية وايران. وسنتناول التطورات السياسية في كل من هذه المناطق.

نأتي إلى الغاز، فروسيا تملك ثلاثين في المائة من احتياطي الغاز في العالم وعشرين في المائة من الانتاج، تليها إيران، ومن ثم الجزائر. التعاون بين موسكو وطهران وثيق في هذا المجال، وفي 12 يناير/كانون الثاني الفائت وقعت روسيا والجزائر اتفاقا حول استخراج وتكرير وتصدير الغاز الجزائري، علق عليها المفوض الاوروبي اندريس بيبالج بأنها اتفاقية تثير قلق أوروبا، خاصة بعد الازمة التي حصلت عندما توقف ضخ الغاز من بيلاروسيا الى اوروبا لمدة ثلاثة ايام في بداية ،2007 اثر توتر نشأ بين أوروبا وروسيا. ويومها قال بوتين: نحن غير ملزمين بتأمين حاجات المستهلكين الذين يعتمدون علينا لكننا غير ملزمين بتمويل اقتصاد الدول الاخرى. بعدها جاء طرح وزير الخارجية الروسي من طهران لفكرة انشاء منظمة المصدرين للغاز (اوبيب) على نمط منظمة المصدرين للنفط (أوبك)، وهي فكرة اثارت رعب العالم الذي سيجد نفسه بين احتكار نفطي من جهة واحتكار الغاز من جهة. ولذلك سارع بوتين الى التأكي: “لا نريد ان نشكل كارتل”.

غير ان تناول العلاقة الروسية الايرانية في غير هذا السياق لا يجوز ان ينسينا ابدا مجموعة شنغهاي فهي المجموعة التي شكلتها روسيا والصين مع عدد من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، والمهم في ما يخص تحليلنا اليوم هو ان هذه المجموعة قد دعت ايران الى حضور اجتماعها الاخير بصفة مراقب.

يتم كل هذا في وقت يتفكك فيه الحلف الثلاثي الاوروبي الذي كان يبدو متينا بين روسيا بوتين، والمانيا شرودر، وفرنسا شيراك. ومن المرجح ان الانتلجنسيا الروسية قد استشرفت تغير الوضع في ألمانيا وفرنسا، فولت وجهها شطراً آخر.

يتم هذا في وقت يدخل الاحتلال الامريكي المرحلة الاصعب من مآزقه في العراق، حيث رفع منسوب قوته الى اكثر ما يستطيع، فارتفعت اعمال المقاومة واعمال العنف الى اضعاف ما كانت عليه، مما جعل بوش يهدد بأننا لن نبقى هناك الى الأبد، وقادته العسكريون يقولون ان نتائج الخطة الامنية الجديدة لن تظهر في وقت قريب. وبالمقابل ينادي الاحتلال بالتعاون مع إيران لايجاد حل للرمال المتحركة هناك. هذا في حين تتفاقم الازمة اللبنانية، ولا يبدو ان السياسة الفرنسية الخرقاء التي اتبعت فيها ستحقق نجاحاً ما لأطرافها، اللهم إلا إذا حصلت صفقة ما مع إيران وسوريا (على ظهر حزب الله)، وهي صفقة يحاول البعض أن يعقدها لمصلحة الأمريكيين. حتى إذا نجحت يكون الفرنسيون والأوروبيون قد فقدوا كل موقع قدم على الشاطىء الشرقي للمتوسط الذي يشكل مداهم الجيوبوليتيكي، في حين يواجهون الانجليز على المانش وأمريكا على الاطلسي وروسيا على الأسود. وليس بين كل هؤلاء حليف، مما يؤدي الى ضياع الحلم الاوروبي بالحفاظ على موقع الحليف المستقل لا موقع التابع الضعيف. وهو ما حاول شيراك بتحالفه مع شرودر وبوتين تأمينه عبر العديد من المواقف ومنها معارضة العدوان على العراق.

عوامل تقود كلها الى فهم تصريحات شيراك الاخيرة، بل انه نظر طويلا الى خريطة العالم قبل ان تتبلور الفكرة لديه. لكنْ ثمة رقعتان يبدو ان شيراك لم ينتبه اليهما بما يكفي، رغم أنهما قد تبلبلان المعادلات كلها أولاهما تتعلق بوضع امريكا اللاتينية، التي اصطبغت كلها باللون المعادي للولايات المتحدة. فمن الذي سيفيد من هذا التحول اوروبا ام روسيا، ام ان الصين ستزيحهما معا الى الوراء وتحتل المشهد، كما يبدو حتى الآن؟ وثانيتهما تتعلق بالعراق: أليس من باب قصر النظر التاريخي، ألا يؤخذ بعين الاعتبار العامل الأهم في منطقة الشرق الاوسط، أي المقاومة العراقية؟ وإذا كان بوش يخشى نجاحها كي لا يسيطر من يسميهم بالارهابيين على العراق ومن ثم على المنطقة، ويتحكموا بالنفط ويستغلوه لوقف دعم امريكا ل “اسرائيل” (كما قال بالحرف)، فهل الأوروبيون لا يمتلكون من خبرة التاريخ على الاقل في الجزائر والهند الصينية ما يدلهم على طريق التأسيس لمستقبل حقيقي؟