الحياة / حازم صاغيّة

بعدما بدأ التسخين يعود الى الجنوب، غدا الرجوع الى الأساسيّات أساسيّاً. ذاك أن مصير الاجتماع اللبنانيّ كلّه معلّق بجبهة الجنوب. وربّما كنّا لا نزال نغرف من نظريّة «التوريط» التي أسّسها الراحل خليل الوزير عهدَ الثورة الفلسطينيّة من الأردن ولبنان. فحسب النظريّة تلك، تقوم مجموعة مسلّحة بعمل صغير تردّ عليه إسرائيل، على عادتها، بعمل كبير. عندها، يختلط الحابل بالنابل فينجرّ الى المواجهة مَن لا ينجرّ، ويسكت مَن يتكلّم. ولأنّنا لا نقوى على صدّ السحر المسمّى مرّةً «وا معتصماه»، ومرّةً «إنّها إسرائيل يا عرب»، نتطوّع، بشراً وحجراً، عَلَفاً للمدافع، يزاود واحدنا على الآخر في الأرقام القياسيّة التي يكسرها في عدّادات الشهادة.

والحال إن القائلين بإغلاق الجبهة ينبغي ألاّ يستسهلوا هدفهم، حتّى لو عزّزته قوّات دوليّة وقرار أمميّ. فـ»حزب الله» المربَك في الداخل يبحث عن مخرج على الحدود، تماماً كما بحث عن مخرج في الداخل حين ارتبك على الحدود. وهي حال هذا الجسم الذي تجعله طبيعته هكذا، عاجزاً عن العيش في الطبيعيّ، هنا كان العيش أو هناك. وإسرائيل المربكة، والمربك ائتلافها الحكوميّ، تسعى الى ما يسعى إليه: هي، لتنتصر عليه وعلينا وقد «وُرّطنا» وأُخذنا على عجل، وهو، لكي يقدّم شهداء يُخضع بهم حياتنا ويستولي عليها. وتزدوج صعوبة إغلاق الحدود حين تنحو المنطقة نحو استقطاب مشوب، على ما هي الحال الآن، بالتوتّر، إن لم يكن بالعنف. وتقارب الصعوبةُ الاستحالةَ حين تجد الأطراف «الشقيقة» الراعية للخراب العميم أن جحيم الآخرين وسيلتها لإطفاء جحيمها. فإذا أخرجت مصالحة مكّة الفلسطينيّين من الاقتتال، تضاعفت، في أنظار تلك الأطراف، «ضرورات» زجّ اللبنانيّين فيه.

وبدورهم، لا يفعل نقّاد «الحزب» إلاّ إعانته ومفاقمة صعوباتهم حين يعيّرونه بالهرب من الجبهة الى الداخل، كما لو أنهم أرادوه فعلاً في الجبهة، فيما مطلبهم ومطلبنا أن يخرج منها جسمانيّاً وأن يخرجوا منها لفظيّاً. فهم، بأقوال كتلك، لا ينمّون إلاّ عن تشاطُر يفوته الربط بين جناحي الاستراتيجيّة المتكاملة لـ»حزب الله»، فيما يمضون في دجل، ثبت أنه مكلف، مفاده أنّهم، هم أيضاً، مقاومون بطرق أخرى!

وفي النهاية، يبقى «أنها تدور» كائناً ما كان حجم الإصرار الوحشيّ على ثبات الأرض. فإغلاق الجبهة، من دون «إنّما» أو «لكنْ»، يستقي أهميّته لا من كارثيّة المجابهات فحسب، ولا من التزامات لبنان حيال العالم الخارجيّ فقط. فهناك، أيضاً، أسباب تتّصل بالبلد نفسه، وأخرى تتعلّق بتقدّم أهله.

فهو، وهذا ما يُفترض أنه بديهة، حصيلة تسوية وتجسيدها. والتسوية فيه، كما تحدّدها طبيعة سكّانه وأمزجتهم، ليست بين دعاة محاربة إسرائيل بالجيوش الكلاسيكيّة ودعاة محاربتها بحرب العصابات. إنّها بين متلهّفين الى انخراط فوريّ في الصراع وبين سعاة العزوف الفوريّ عنه. وقد تصل الاندفاعة ببعض المتلهّفين الى طلب القتال ولو سالم جميع العرب والمسلمين، بل الى النيابة عنهم جميعاً فيه، ومن ثمّ تشكيل طليعة حربيّة لمؤخّرة ليست موجودة أصلاً. وقد يلحّ، في المقابل، بعض العازفين على صلح مباشر في معزل عمّا إذا كان ثمّة من يريد السلام في الجوار العربيّ والمسلم.

وهذا، بين ما يعنيه، يعني أن التسوية الممكنة البقاء خارج السلم وخارج الحرب في آن. وربّما جاز لبعض المجتهدين أن يضيفوا: خارج السلم إلى أن يسالم الفلسطينيّون، وخارج الحرب الى أن يحارب السوريّون. فهذه معادلة قد تقبل النقاش إذ تأخذ في اعتبارها أن الفلسطينيّين أصحاب القضيّة الأصل، وأن السوريّين أصحاب فرع خاصّ من فروعها لا يسع لبنان أن يعزل نفسه عن مجرياته.

وصيغٌ تدور في هذا النطاق تملك وحدها طاقة تسوويّة، ووحدها تريد لهذا الوطن أن يبقى، لا بالغلبة والإخضاع، بل بالقرار الحرّ. لكنّ هناك، فوق قيمة التسوية وإيلاء الأولويّة لبقاء البلد، قيماً أخرى يخدمها إغلاق الجبهة، في عدادها أننا نعيش أفضل وأطول، ونهاجر ونفقر أقلّ، وأن تعليمنا وطبابتنا يكونان أحسن، ونساءنا أكثر حريّة، فيما نوفّر ظرفاً تتراجع فيه مخاوف طوائفنا، واحدتها من الأخرى، وتنشأ شروط أشدّ ملاءمةً، ولو نسبيّاً، لبلوغ مجتمع وحدتُه أحد احتمالاته.

وغالباً ما ننسى، في المقابل، أن «القيم» التي يؤجّجها لهيب الجبهات هي بالضبط «القيم» التي تثقل، اليوم، علينا. فنحن لا نحصد الآن إلاّ كوننا دولة المجابهة الوحيدة منذ 1973، وأننا فريدون في التنعّم بجيش أقوى من الجيش، يوازيه. وما هذا الحصاد في ترجمته اليوميّة إلاّ إقامة الهواجس الطائفيّة على تخوم الاحتراب المباشر، وسطوع الظلاميّة والعصبيّات المهتاجة، وانتصاب الموت والبؤس، الإعاقة والهجرة، الخوف والذلّ، أفقاً لنا وحيداً.

وهذا خبرناه بالملموس، وذاك باللحم مهرناه