سوف نحاول ومن خلال هذه المقالة أن نبدي بعض الملاحظات والآراء بخصوص مسألة (التشرذم) والانقسامات المتكررة في الحركة السياسية الكردية لنساهم بإلقاء بعض الضوء على تلك المسائل من جهة ومن جهة أخرى نطرح بعض الرؤى والقراءات لعلى وعسى تساهم في حل بعض الإشكاليات والمسائل العالقة ضمن الصف الكردي وفصائلها السياسية المختلفة. ولكن وقبل الخوض في هذه القضية (أو القضايا) الإشكالية والتي تساهم في ازدياد مساحة اليأس لدى الجماهير الكردية، لا بد من التأكيد على جملة مسائل و(حقائق) موجودة على الأرض ساهمت وتساهم في حالة اللاتوافق الكردية وتدفع بحركتها السياسية نحو التفتيت والتعددية الحزبية وقلما السياسية.

وأهم هذه (الحقائق) التي تساهم في التفرقة والتشتت في المجتمعات الشرقية عموماً والمجتمع الكردي على وجه التخصيص هي حالة الاستبداد والتي عاشتها وتعيشها مجتمعاتنا منذ قرونٍ وقرون، بل يمكن اعتبارها جذر كل المشكلات والأزمات التي نمر بها؛ حيث أن حالة الاستبداد المستديمة هذه أفرزت خوفاً مزمناً من الآخر المتمايز (إن كان دينياً – مذهبياً أو عرقياً – قبلياً وأخيراً سياسياً – حزبياً). وبالتالي فالإنسان الشرقي عموماً في حالة توجس وخوف وحاجة (أو هكذا يشعر على الأقل) إلى ارتباطه العضوي – الدموي (العائلة والقبيلة) ليحتمي في ظلاله من عنف الآخر وغزواته، كونه (أي المواطن في بلدان العالم الثالث) يعيش في مناخ ثقافي عام ما زال يستند إلى هذه المفاهيم العائلية – القبلية في علاقاته الاجتماعية والسياسية، حيث في ظل غياب الدولة المدنية ومؤسساته لا يبقى للمرء إلا اللجوء إلى هكذا مكونات اجتماعية - سياسية.

النقطة الثانية وإن كانت هي الأخرى مرتبطة بحالة الاستبداد إلا إنها خاصة بالكورد – وبعض الشعوب والقوميات الأخرى كالأمازيغية – الذين ما زالوا تحت قبضة الاحتلال وهيمنة الآخر، مما حرمت هذه الشعوب من تكوين ورسم ملامح شخصيتها وهويتها الخاصة حيث ما زالت تعيش كـ(لاحقات) سياسية – ثقافية واجتماعية اقتصادية ببلدان الهيمنة والاستبداد والتي مارست – وما زالت تمارس – كل الوسائل والطرق (الشرعية) منها وغير الشرعية وذلك في سبيل طمس هوية هذه المكونات الراضخة لهيمنتها وسحق شخصيتها مما خلق نوع من الشخصية الذيلية في هذه المجتمعات المبتلية بالفقر والجهل والخوف وذلك من خلال ممارسة سياسات منهجية تكرس هذه الحالة من قبل مراكز الاستبداد تلك في جغرافيات أقاليم هذه الشعوب وهكذا نجد أن (الشخصية الكردية) ومن صفاتها وملامحها البارزة هي الانزوائية والهروب من المواجهة وبالتالي تحمل المسؤولية؛ سياسية كانت أم غيرها.

وأيضاً ونتيجةً لواقع الاستبداد – كما قلنا قبل قليل – وكنتيجة لتلك السياسات المتبعة تجاه الشعوب المستضعفة، كان الفقر والجهل والمرض وفقدان الرعاية والمؤسسات المدنية والحقوقية، مما أوجد بيئة ملائمة لكل الأمراض الاجتماعية الأخلاقية؛ من حالات الفساد والرشوة والسلب والانتهازية وبالتالي عدم الأمان. ففي هكذا بيئة اجتماعية سياسية وفي ظل غياب المؤسسات التي ترعى مصالح الإنسان فهو مجبرٌ على إيجاد بدائلها وأسهلها تكون مما هي متوفرة أو راقدة تحت الركام كمفهوم العائلة والقبيلة وخاصةً في حالة قانون الطوارئ وغياب أو نسف قانون الأحزاب من دستور البلاد وبالتالي تكريس الحالة القبلية العشائرية في المفاهيم والحياة اليومية للإنسان وإبعاده عن الحالة المدنية - المؤسساتية.

والنقطة الرابعة والخارجة من بطن النقطة السابقة لها؛ هي المتعلقة بمسألة غياب الحريات العامة وعدم الاعتراف الدستوري بالحالة الكردية كثاني قومية في البلاد تعيش على أرضها التاريخية وبالتالي كون القضية الكردية قضية أرضٍ وشعب مما يوجب الكثير من المستلزمات التابعة على صعيد الحقوق القومية سياسياً واجتماعياً وثقافياً وأيضاً اقتصادياً. فبدل الإقرار بذلك دستورياً وحيث يستلزم ذاك أيضاً بأن تكون لها أدواتها المؤسساتية القانونية للعمل من أجل مصالحها وفي مناخ وظروف سياسية حضارية تسمح لها بالحركة الانسيابية الحرة، فإننا نعيش في ظروف مناقضة تماماً للحالة الموصوفة سابقاً مما يزيد في حالة الخوف والعصاب المتراكم عند الشخص الكردي كونه يعمل من خلال مؤسسة حزبية (غير شرعية) ومرخصة لها بالعمل داخل البلاد وبالتالي أن تكون شخصية قلقة غير متوازنة ومستقرة.

أي إن في ظل الأحكام العرفية وقانون الطوارئ والمعمول به منذ حوالي نصف قرن في البلاد والذي تم بموجبه تعطيل الحياة السياسية إلى حدٍ مخيف في البلد، ليس فقط على مستوى المعارضة وأحزابها، بل وقبلهم الأحزاب التي تحالفت مع حزب البعث في (الجبهة الوطنية التقدمية)؛ حيث أن المادة الثامنة من الدستور والتي تعطي الحق والشرعية لأن يقود حزب البعث المجتمع والدولة وبالتالي أن يهيمن على البلاد والعباد ومن قبل الجميع أن يهيمن على جبهتها والأحزاب المنضوية تحتها، قد جعلت مسألة اللاحقة والشخصية الذيلية الهزيلة والهزلية والغير المستقرة هي الطاغية في المجتمع السوري عموماً والكردي على وجه الأخص وهكذا فلا (حياة) في سوريا إلا لمن يكون البعث راضياً عنه.

وهكذا وفي ظل هكذا مناخات اجتماعية اقتصادية وسياسية ثقافية وأيضاً الأمنية من ملاحقاتٍ واعتقالاتٍ لمن يعمل في الحقل السياسي الثقافي وكذلك لبعض الاختراقات الأمنية داخل صفوف المعارضة وأحزابها إجمالاً، فإن المفاهيم القبلية سوف تكون السائدة والرائجة و(الأقل خطورةً) وسوف يعيش المجتمع برمته في حالة تغريب عن الحياة المدنية – المؤسساتية. وأي عمل مؤسساتي (أحزاب – نقابات – منتديات.. الخ) لسوف يتعرض إلى هزات قوية وانتكاسات حقيقية؛ حيث العمل في بيئات غير مهيأة وملائمة لنجاح أي تجربة تعني بشكلٍ أو آخر انتحاراً للتجربة نفسها، وإننا لنرى ونشاهد ما توصل إليه تجربة (مؤسساتنا) السياسية – الحزبية من حكومية أو موالية (كحزب البعث والحزب الشيوعي والآخرين) أو تجربة المعارضة وأحزابها (من الإخوان المسلمين وصولاً إلى الحركة الوطنية الكردية وأحزابها).

والأخيرة تهمنا أكثر كوننا معنيين بها أولاً، وثانياً كون الموضوع متعلق بها وبإدارة الأزمات داخلها؛ حيث ومن دون شك أن المناخ العام السابق – والذي وقفنا عند بعض ملامحه – قد ساهم في حالة الانقسام التي تعيشها الحركة السياسية عموماً والكردية على وجه التخصيص والتحديد، وهكذا وجدنا العديد من الأحزاب والحركات السياسية الكردية تعمل وتتزاحم في هذه الساحة والإقليم الكردي (الصغير) والذي لا يتسع لكل هذا الازدحام الحزبوي، ولكن يبقى لاختلاف البرامج السياسية بين هذه الأحزاب والكتل السياسية الكردية بعض الدور في حالة التشتت هذه مثل انقسام الحركة في بدايات الستينات على أساس الفكر اليساري الماركسي - الينيني، أما أكثرها (أي السبب الأكثر فاعليةً في حالة التعدد الحزبي) فهو عائدٌ إلى سوء إدارة الأزمات الدائرة داخل هذه الأحزاب نفسها.

حيث أننا ومن خلال تاريخ الحركة السياسية الكردية في هذا الإقليم نلاحظ بأن أكثر الأزمات السياسية داخل أحزابنا الكردية (تُحل) عن طريق التفتيت والانقسامات الحزبية ومن دون أن تعترف هذه القيادات بأن هناك أزمات حقيقية في الحالة التوافقية السياسية، بل جلها إن لم نقل كلها تهرب إلى الأمام أو تُحمّل (الآخر) كل المسؤولية الأخلاقية والسياسية وتتبرأ بنفسها بل تدعي أنها تزداد مناعةً وقوةً بخروج تلك (الزمر) من صفوفها وكمثال على ذلك (وحتى ما يزعل أحد أو يأخذ على خاطره) نورد ما يأتي في منهاج الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي) حيث يأتي في فقرة التعريف بالحزب ما يلي: "لقد تعرض حزبنا بدءا من عام 1957م إلى انقسامات متعددة كان آخرها بعام 1998 حيث خرجت على الشرعية جماعة لا تزال تطلق على نفسها نفس الاسم الذي يحمل حزبنا ورغم كل هذه الانقسامات فإن حزبنا لا يزال شامخا قويا ويزداد منعة وصلابة كلما غادرته زمرة انضمت إليه مجموعة جديدة تمده بدماء جديدة وفكر متقدم متحرر من الروح الانقسامية والجامدة".

وكمثالٍ آخر، نورده على العقلية السابقة، ما يدور حالياً في أوساط الأخوة والرفاق في حزب الوحدة الديمقراطي الكردي "يكيتي"؛ حيث إن التعامل مع الآخر؛ (الذين خرجوا عن الشرعية الحزبية) هو ضمن السياق المفاهيمي السابق وعلى أنهم زمرة موالية لهذا (الزعيم) أو مناهضٌ لذاك (السكرتير) وبالتالي إصباغها (أي الأزمة الحالية في حزب الوحدة) بنوع من الشخصنة الذاتية لصراع الزعامات أو أنها (زوبعة) في فنجان وهكذا الهروب مرة أخرى من تسمية الحقائق بأسمائها؛ أي من دون الرجوع إلى الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ذلك وعلى أنها ناتجة عن ازدواجية الطرح والخطاب السياسي – أو على الأقل إنها جذر المشكلة وقد بدأت منها – والذي وقع به الحزب ما بين برنامجه السياسي وما يطرحه من قضايا ومسائل في الساحة السياسية السورية عموماً والكردية خصوصاً وتباينها مع ما تطرحها قياداتها السياسية (أو بعض رموزها) من مواقف تقف على النقيض مما هو مطروح في برامجها تلك مما خلق نوع من الازدواجية في الطرح السياسي عند كوادرها وبالتالي كانت الشرارة الأولى في حالة التململ والتصدع في صفوف الحزب والذي نأمل أن يرمم وبأسرع ما يمكن وذلك بالعودة إلى معالجة الأسباب وبشكلٍ موضوعي بحيث يكون هناك توافق ما بين الطرح النظري البرامجي وما تمارسها القيادة السياسية للحزب.

وهكذا فإن هذه العقلية والتي ترى في الآخر المختلف (زمرة) خرجت على الشرعية الحزبية أو (زوبعة) في فنجان وإن بخروجها تلك لم تفقد الشرعية (أي تلك الزمرة – الزوبعة) بل ازداد الحزب منعةً وصلابة، لن تكون قادرة على احتواء أزماتها وإدارتها بطريقة تستطيع أن تؤسس لمرحلة مدنية مؤسساتية. بل إن هذه العقلية سوف تخلق المزيد من بؤر التوتر الحزبية – القبلية ولذلك فسوف تكون الأرضية مهيأة لمزيد من الانقسامات والولادات غير الطبيعية. وهكذا فليس أمام هذه الأحزاب إلا إعادة قراءة برامجها السياسية الحزبية المختلفة ليكون للآخر صوتاً داخل المؤسسة نفسها وبالتالي موطئ قدم داخل الكيان الحزبي الواحد هيكلياً والمتعدد التيارات والثقافات وحتى المتعدد على مستوى البرامج السياسية ولحدود معينة.

أما الإبقاء على الأحزاب تحت يافطة وشعار الحزب الواحد ذو اللون و(الفكر) الواحد فإنها استمرار لحالة الاستبداد وممارسة لسلوك النظام نفسه وهي بالتالي تعمل بالضد من المفهوم الكينوني الوجودي لنفسها؛ حيث (خُلقت) وأُسِست هذه الأحزاب على أساس العمل والنضال ضد تلك المفاهيم الاستبدادية الإلغائية والتي تمارس بحق الآخر؛ بحقها أولاً. وبالتالي فليس أمامها (أي أمام الأحزاب) إلا الرجوع إلى برامجها وأنظمتها الداخلية والعمل عليها وقراءتها من جديد وصياغتها وفق رؤى ومفاهيم العصر والمنطق العلمي المدني المؤسساتي والمعاصر والمنطلق أساساً من قبول الآخر ومشاركته في الوطن والحزب والقبيلة وبالتالي الخروج من (دائرة الإبليس) الحزبوية الضيقة والتي لا تجد في الآخر إلا (زمرة) متمردة على (الشرعية) الحزبية – القبلية.