مر أواخر الشهر المنصرم حدثاً إسرائيلياً مروراً أقل ما يقال عنه أن لم يحظ بالاهتمام الكافي من المتابعة الاعلامية العربية. أنه ما يعرف بمؤتمر هرتسيليا الدوري الذي يعقد سنوياً منذ العام ألفين. وفيه، كالعادة، قُدّمت أوراق عمل، وطُرحت أفكار، وأقترحت توصيات، تم إجمالها وتلخيصها في وثائق ستصدر عنه، لتضاف إلى ما راكمته المؤتمرات الهرتسيلية التي سبقته من وثائق، والتي توصف عادة بأنها ثمره جهود تنصب في مجملها على مواضيع التفكير الآني والاستراتيجي لقادة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والأكاديمية الاسرائيلية. أو هي كما يتفق المراقبون تعكس اتجاهات التفكير المختلفة المعبرة عن رأي تلك النخبة، أو فيها، وفق تعبير البعض، يلتئم شمل العقل الجمعي الإسرائيلي المفكر...

لعل ما يؤشر على أهمية هذا المؤتمر هو ملاحظة ما تضمنه الشعار الذي انعقد تحت يافطته، وتخصص الجهات التي رعته أو نظمته، ثم نوعية ومستوى حضوره من الإسرائيليين، وكذا ضيوفهم المنتقين أو المستقدمين من الخارج للمساهمة فيه، ثم المحاور التي ناقشها هؤلاء طيلة أيام انعقاده، الذي استغرق ما بين الواحد إلى الرابع والعشرين من الشهر الأول من عامنا هذا، حيث اُختتم، كما هو معروف، بخطاب لرئيس الوزراء إيهود أولمرت.

كان شعار المؤتمر هو "ميزان المناعة والأمن القومي"، أما من نظّمه فهما جهتان هما: "معهد السياسة والاستراتيجيا"، و"مدرسة لاودر للحكم والديبلوماسية والاستراتيجية". وفيما يختص بالحضور، فهم خليط من الوزراء والجنرالات، ورؤساء الأحزاب، والأكاديميين من أساتذة الجامعات المختصين بكافة المجالات، ومثلهم من الإعلاميين. إلى جانب ضيوف أجانب، من بينهم كان السياسيون والعسكريون، وأكثرهم أمريكان، وفي مقدمة هؤلاء قادة "سي آي إيه" سابقين... ومن بين العرب كان الدكتور سلام فياض وزير مالية سلطة الحكم الذاتي الإداري الفلسطينية السابق.

كانت المحاور عديدة تنسجم جميعها مع شعار المؤتمر المشار إليه، ومع السياسات والاستراتيجيات التي تهم منظمي المؤتمر ومن بينها، على سبيل المثال لا الحصر: تحديات السياسة الخارجية الإسرائيلية، والحوار الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي، إلى جانب السياسة الخارجية الأمريكية على ضوء الانتخابات الأمريكية النصفية الأخيرة، والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، وصولاً إلى البدائل الجيواستراتيجية الدولية، ثم ما يسمى بالخطر الإيراني. هذا على الصعيد الخارجي، أما الداخلي، فكان من موضوعاته ما دُعي بتجديد الجيش وتعزيز قوته، التفوق العلمي، أمن الطاقة، المناعة المالية، نظام الحكم، العلاقة مع يهود العالم، الجيل القادم أو القيادات المقبلة أو الشابة، فالهوية اليهودية ومناعتها، وطبعاً المناعة الإسرائيلية بعد الحرب الأخيرة على لبنان... وكان من بين الموضوعات التي تم بحثها موضوع "اعرف عدوك"، وهذا ما يذكرنا بشعار عربي سابق تم إهماله، لكن الإسرائيليون الذين يذكروننا اليوم به قد درجوا على تطبيقه دائماً في مواجهة من أهملوه.

مؤتمر هرتسيليا هذا العام اختلف عن سابقيه في كونه ينعقد في ظل أزمة قيادة تعيشها إسرائيل، وبالتالي كانت هذه الأزمة محوراً رئيساً من محاور البحث، حيث يعيش كيانها الهش سلسلة من التحقيقات العسكرية والجنائية تطول رؤوساً عديدة من المستويين العسكري والسياسي. فبالإضافة إلى لجنة "فينوغراد" التي تحقق في القصور وأسباب الفشل الذي وسم الحرب على لبنان. هناك العديد من النماذج التي تشي باهتراء طبقة سياسية تقود كيان عدواني متوحش، مثل، ما يعرف بمحنة كتساف، رئيس الدولة المتهم بارتكاب جرائم اغتصاب وتحرش، وصولاً إلى ما يعرف بقبلة الوزير رامون، فالتحقيقات مع رئيس الوزراء في تهمة فساد وقبله مع وزير المالية الخ. وتكتمل المسألة بالجدل الدائر راهناً في الشارع حول صورة إسرائيل السيئة بين يهودها بعد صورتها الخطرة في العالم. ولنأخذ مثالاً هو ما نشرته صحيفة "يدعوت احرونوت" تحت عنوان "من العار أن تكون إسرائيلياً"، والذي كان لمقال كتبه المعلق الاقتصادي للصحيفة، ومبعوثها إلى ملتقى دافوس الأخير، نجتزء منه ما يلي:
"لم تعد لإسرائيل صورة القوة العظمى التكنولوجية المزدهرة، ولا حتى قوة عظمى لاحتلال وحشي، إنها تتخذ صورة شيئ آخر تماماً: دولة غارقة لا تؤدي وظائفها، رئيسها يقدم إلى المحكمة بتهمة الاغتصاب. رئيس وزرائها يحقق معه للاشتباه بخدمة مصالح مقربيه. وزير ماليتها سيطير مع وزارته بسبب قضية أموال وجمعيات. رئيس أركانها استقال بسبب حرب فاشلة. وزير دفاعها سيضطر قريباً إلى السير في إعقابه. هكذا هي إسرائيل كما تظهر في شتاء 2007 أمام العيون المتفاجئة لأبناء النخبة الاقتصادية السياسية الأكاديمية في العالم".

وإذا كان الجيش أو المؤسسة الأمنية، وبالتالي ما يمكن اختصاره بالبعد الأمني، الذي هو تقليدياً في نظر الإسرائيليين حجر الرحى والركيزة الأهم بالنسبة لوجودهم أو ما يتصورونه ضمانة استمرارية كيانهم برمته، فإن الجدل الدائر حول أداء هذا الجيش إبان الحرب على لبنان يظهر مدى اهتزاز صورته لديهم، وهنا تكثر الأمثلة، التي نختارها مما طرحته بعض الرموز الأمنية ذاتها في هرتسيليا، ومنها... يقول وزير الحرب السابق موشيه ارينز:

"في حرب لبنان الثانية منيت إسرائيل بهزيمة للمرة الأولى في تاريخها، ومن يتشكك بأنها قد هزمت بسبب انجازات عديدة حصلت عليها، فإن النتيجة النهائية هي إطلاق 250 صاروخاً عليها في اليوم الأخير" من الحرب.
ويقول الجنرال يعلون رئيس الأركان السابق: "إن الإخفاقات في هذه الحرب هي "ثمرة قيادة عسكرية وسياسية فاشلة... وما يجري الآن هو الحرب العالمية الثالثة"!
أما الجنرال حالوتس رئيس الأركان الذي أطيح به جراء فشل هذه التي يعتبرها يعلون "الحرب العالمية الثالثة"، فدافع عن نفسه قائلاً: "لم أثق في قدرات الجيش... والمستوى السياسي اتخذ قرار الحرب دون أن يدري مغزى ما اتخذ"!
ونختم ببعض ما جاء في تقرير "لجنة الموغ" التي عالجت مسألة أسر الجنديين الاسرائيليين من قبل المقاومة اللبنانية ، التي اتُخذت، كما هو معروف، ذريعةً للحرب، إذ يقول دان كوهن عضو الكنيست عن حزب ميرتس: أن "الخلل كان على مستوى الكتيبة، اللواء، الفرقة، هيئة الأركان، ورئيس الأركان"...

هذا بعض مما هو المقلق لمؤتمري هرتسيليا داخلياً، فماذا عن ما هو المقلق لهم خارجياً؟!

لعل الجدل حول صورة إسرائيل السيئة الدائر راهناً بين الإسرائيليين يلهبه ويزيد من أواره صدى صورة إسرائيل الخطرة، وحتى الفاقدة لمبرر وجودها، لدى أصدقائها الغربيين، وكل ذلك يعكس قلقاً مصيرياً مزمناً، أو عدم ثقة دائم باستمرارية مثل هذا الوجود المفتعل أصلاً، بل ما يمكن تسميته بعقدة الزوال. تقول صحيفة "هارتس" في تقرير نشرته يعالج هذه المسألة من زاوية نظرة الخارج لها، أنه لم تعد مسألة زوال إسرائيل حكراً على ما تصفه ب"الجهات المتطرفة"، بل غدت جزءاً من السجال الأكاديمي الواسع في أوروبا وأمريكا، وتستوجب أسئلة تطرح هناك مثل: "هل كان من الخطأ أصلاً إقامة الدولة اليهودية؟" أو "هل ينبغي العمل من أجل إلغاء وجود إسرائيل؟"

... وهنا تستشهد الصحيفة، أولاً، ببعض من مقالة للمورخ اليهودي الأمريكي إلهام طوني جادت تتحدث عن البديل لإسرائيل، ومن ذلك قوله: أنها "جاءت إلى العالم متأخراً جداً... ففكرة الدولة اليهودية ذاتها، فكرة دولة يكون فيها لليهود وللدين اليهودي حقوق مميزة لن تمنح أبداً لغير اليهود، هي فكرة مصدرها مكان آخر وزمان آخر".

وثانياً، ببعض ما يقوله من كانوا من الأصدقاء سابقاً لإسرائيل مثل المفكر النرويجي يوستين غاردر مثل:
"لم نعد نعترف بدولة إسرائيل. لقد حان الوقت لكي نتعود على أن دولة إسرائيل بصيغتها الحالية باتت من التاريخ"... إنها "بفنون الحرب عديمة الضمير التي تمارسها وبالأسلحة المقرفة التي تمتلكها، ذبحت شرعيتها. لقد استخفت بشكل منهجي بالقانون الدولي، بالمعاهدات الدولية، وبعدد لانهائي من قرارات الأمم المتحدة. لقد قضت على اعتراف العالم، ولن تنال الهدوء قبل أن تلقي سلاحها". وتوقع غاردر لها "أنه إذا ما غرقت في خطاياها فلسوف يضطر جزء منها للهرب للمنافي".
قد يكون علينا كعرب أن ندرك سلفاً أن مؤتمر هرتسيليا بما طرح، كان أولاً وقبل كل شيء، يشكل علامة تدل على حيوية، وفيه أيضاً ما يعكس ارادة تريد تلافي قصور ومعالجة مآخذ وتوخي إيجاد حلول لمشاكل، وهو كُرّس أصلاً لكي يتدارس قضية القضايا بالنسبة لمؤتمريه، التي لخصها شعاره، أي: "ميزان المناعة والأمن القومي".

وثانياً، هو في ذات الوقت يعكس قلقاً مصيرياً مزمناً، أو عقدة زوال، لن تبرح مجتمع عنصري استعماري استيطاني إحلالي يدرك نقاط ضعفه القاتلة... لكنه ومع ذلك، لا يعني تراجعاً دراماتيكياً في إحساسه بقدرته أو تصوره لهذه القدرة، أو تبديلاً مستقبلياً في طبيعة هذا المجتمع، ولا ينبئ باقتراب موعد زوال كيانه، إذ لا يجد وزير الحرب بيرتس، مثلاُ، ما يدفع به في مواجهة ما يدور من جدل حول الحرب الأخيرة على لبنان، سوى قوله إننا نشهد "حرب ما بعد الحرب" جراء ما يعتبره المخاطر الداخلية والخارجية...

...إذن، ستظل إسرائيل القلقة على وجودها المفتعل، والتي يصفها إلهام طوني جادت بالفكرة التي مصدرها مكان آخر وزمان آحر، في حالة حرب ما بعد الحرب هذه... إن هذا ما يقوله بيرتس، ولعل ما يقول كان بمثابة خلاصة ما رشح عن مؤتمر هرتسيليا... وعليه، فالسؤال المطروح على العرب في مثل هذه الحالة:
ومتى يكون لنا نحن بالمقابل مؤتمرنا الباحث في ميزان المناعة والأمن القومي؟!!