الاتحاد / باتريك سيل

بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، جولة شرق أوسطية يوم أمس الموافق 11 فبراير الجاري، في إشارة واضحة منه إلى اعتزام روسيا استعادة ثقتها بنفسها، والعودة مجدداً إلى المنطقة، باعتبارها قوة دولية موازية للولايات المتحدة الأميركية. والمعلوم أن لواشنطن وموسكو خلافات كبيرة وعميقة، فيما يتعلق بسياستيهما الشرق أوسطية. فمن جانبها تهدد واشنطن بفرض عقوبات دولية مشددة على طهران، ما لم تتخلَّ الأخيرة عن برامجها الخاصة بتخصيب اليورانيوم، بينما يعلو سقف هذا التهديد ليصل إلى احتمال توجيه ضربة عسكرية لها فيما إذا تعنتت. وعلى عكس ذلك تماماً، زودت موسكو طهران بنظم دفاعية جديدة مضادة للطائرات، حتى تتمكن من الدفاع عن منشآتها ومرافقها النووية، بينما لا تزال موسكو تواصل بناء أول مفاعل نووي إيراني في بوشهر، إضافة إلى عقد وقعته مع طهران، ينيط بها مهمة بناء ستة مفاعلات نووية أخرى.
وفي الوقت الذي ساندت فيه الولايات المتحدة الأميركية إسرائيل، في حربها الأخيرة على "حزب الله" في الصيف الماضي، نجد أن جميع الأسلحة المضادة للدبابات، وهي الأسلحة التي أفلحت في نسف الكثير من الدبابات الإسرائيلية، هي روسية الصنع في الأساس، حتى وإن تلقاها "حزب الله" على نحو غير مباشر، عبر إيران وسوريا. وبينما جارت واشنطن تل أبيب في مقاطعتها لحركة "حماس"، إثر الفوز الديمقراطي الذي حققه مرشحو الحركة في انتخابات يناير 2006، كانت موسكو قد دعت إلى التفاوض مع "حماس"، بل دعت قادتها لزيارة روسيا خصيصاً لهذا الغرض.
أما في شمال إفريقيا والجزء الجنوبي منها، فتبدي واشنطن هلعاً من أن تتحول تلك المنطقة إلى قاعدة جديدة لانطلاق المزيد من الأنشطة الإرهابية. وفي المقابل، انتقدت موسكو ما أسمته هوس واشنطن باستحضار هواجس الإرهاب، ومضت غير آبهة بمخاوف إدارة بوش وحلفائها من "المحافظين الجدد"، موافقة على مد الجزائر بما تبلغ قيمته 7.5 مليار دولار، من الدبابات والمقاتلات الجوية، إلى جانب الصواريخ والنظم المضادة للطائرات. وإذن فقد تواصل واتسع الصدع الدبلوماسي ما بين واشنطن وموسكو، على رغم بوادر التعاون التي لاحت في أفق العلاقة بينهما، على إثر الغزو الأميركي للعراق بأكثر من عام، وعلى رغم تفاؤل واشنطن بتحسن هذه العلاقة واتجاهها نحو الأفضل وقتئذ.
ومن جهة أخرى، تبرز المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، باعتبارها لاعبة دولية جديدة في منطقة الشرق الأوسط. وبسبب الماضي "النازي" الذي يؤرق بلادها، فإنه ليس متوقعاً أن تتخذ ألمانيا موقفاً متشدداً من تل أبيب. غير أن ميركل، أظهرت رغم ذلك، قدراً عالياً من الاستقلالية، خلال جولتها الشرق أوسطية الأخيرة، التي دعت خلالها إلى التحاور مع سوريا، وإلى تسوية شاملة للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، تقوم على الإعلان عن دولتين مستقلتين متجاورتين. وبينما تشهد الساحة الشرق أوسطية والدولية، دخول لاعبين أوروبيين جدد إليها، فهي تشهد تأهب بعضهم الآخر للمغادرة. وفي مقدمة هؤلاء، رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، والرئيس الفرنسي جاك شيراك، اللذين شارفا على مغادرة الساحتين الإقليمية والدولية معاً، بحلول فصل الربيع المقبل. وقد أمضى كلاهما زهاء عقد كامل في السلطة. ومن المتوقع أن يخلف كلاهما، سجلاً مزدوجاً وراءه.
وفي حين يتوقع تسليم بلير منصبه، لوزير خزانته جوردون براون، فإنه يتوقع للانتخابات الفرنسية المرتقبة في شهر مايو المقبل، أن تسفر إما عن وصول المرشح اليميني نيكولا ساركوزي، أو المرشحة الاشتراكية سيجولين رويال، إلى قصر الإليزيه الرئاسي. أما احتمالات خوض شيراك للانتخابات الرئاسية مجدداً، فهو احتمال لا تتخطى نسبته الواحد في المئة فحسب. وبالنظر إلى الأربعين عاماً التي أمضاها شيراك من عمره في الحياة العامة، بصفته عمدة سابقاً لمدينة باريس، ثم رئيساً للوزراء، وصولاً إلى المنصب الرئاسي الذي أمضى فيه عقداً كاملاً من الزمان، فإن احتمالاً كهذا لم يعد وارداً البتة. وتأكيداً لهذا، فقد نقل عنه تصريحه مؤخراً، بأن هناك امتداداً للحياة فيما بعد السياسة.
وبالنسبة لبلير، فقد عصف انضمامه للولايات المتحدة الأميركية في حربها على العراق، بذلك السجل المشرق الذي كان قد حققه على صعيد سياساته الداخلية، خاصة وأن الكثيرين ينظرون الآن إلى هذه الحرب، على أنها غير شرعية وقامت على ذرائع ومسوغات مُلفقة، وأنها لم تفضِ إلى شيء سوى تدمير دولة عربية كبيرة، مقابل فتحها لشهوة إيران وأطماعها، وإشاعة الفوضى على امتداد المنطقة الشرق أوسطية.
وكان بلير قد سعى لإنقاذ سمعته، عن طريق الدفع بخطى عملية السلام الإسرائيلي- الفلسطيني. إلا أن "المحافظين الجدد" في واشنطن، انبروا له وتمكنوا من إلحاق الهزيمة به، انطلاقاً من إيمانهم بما يعتبرونه حق إسرائيل المطلق في تسوية خلافاتها مع كل من سوريا والفلسطينيين، وفقاً لشروطها الخاصة، ودون أدنى تدخل خارجي. أما بالنسبة لخلفه المتوقع جوردون براون، فلا يزال مجهول التوجهات حتى الآن، ولا أحد يعرف هل سيكون قادراً على إحراز أي قدر من النجاح أو التقدم في هذه العملية السلمية، أم أنه سينهزم هو الآخر أمام تجهم "المحافظين الجدد" وتعنتهم.
أما الرئيس شيراك فتعود شهرته في منطقة الشرق الأوسط بدرجة أولى إلى مناهضته للحرب على العراق منذ أول وهلة. وقد أكسبه بُعد نظره وشجاعته السياسية، شعبية كبيرة في عيون العرب. غير أنه أهدر قدراً من هذه الشعبية، بمؤازرته لواشنطن في دعوتها للانسحاب السوري من لبنان، وكذلك بدخوله في نزاع شخصي مباشر مع الرئيس السوري بشار الأسد. إلى ذلك فقد أبدى شيراك معارضته لـ"حزب الله" في مناهضته الحالية للحكومة اللبنانية، إلى جانب مجاراته لواشنطن في مقاطعتها لحركة "حماس". وفي حال فوز نيكولا ساركوزي، فإن المرجح أن يعيد فرنسا مرة أخرى إلى حظيرة التحالف الأميركي- الإسرائيلي. وكثيراً ما وصف ساركوزي نفسه بأنه "صديق لإسرائيل"، كما عرف عنه هوسه الشخصي بأمن إسرائيل ومستقبلها.
ونخلص من هذا كله، إلى أنه لم تتمكن لا فرنسا ولا بريطانيا، من بلورة سياسة شرق أوسطية مستقلة خاصة بهما، وأنهما لطالما أرغمتا في معظم الأحيان، على إخلاء هذه الساحة للهيمنة الأميركية والإسرائيلية وحدها. ولذلك فإن من رأي الكثير من المحللين والمراقبين، أن فشل أوروبا في بلورة سياسة خارجية ودفاعية خاصة بها، وكذلك إخفاقها في صياغة دستور أوروبي جديد، على إثر التوسعة الأخيرة للاتحاد الأوروبي، التي بلغت بموجبها عضوية الاتحاد، 27 دولة، إنما يعودان في الأساس، إلى الهشاشة السياسية الأوروبية الراهنة.
ومما يمكن استنتاجه في هذه السنوات الأخيرة، أنه وعلى رغم الدعم والمساعدات الكبيرة التي ظلت تقدمها واشنطن لتل أبيب، إلا أن الأولى لم تخطُ خطوة واحدة لممارسة نفوذها على إسرائيل، ودفعها باتجاه التسوية السلمية العادلة لنزاعها مع جيرانها الفلسطينيين. بل وعلى النقيض تماماً، فقد تمكنت إسرائيل بمعاونة حلفائها وأصدقائها الأشداء، من تشكيل سياسات إدارة بوش. فبعد أن دفع هؤلاء بوش إلى غزو العراق، ها هم الآن يحثونه على توجيه ضربة عسكرية لإيران. وإذا ما وجهت هذه الضربة، فإنه لا أحد يدري بعد، ما ستكون عليه عواقبها وتداعياتها التي ستطال العالم كله. إلى ذلك يبقى سؤال واحد عالق في الذهن، حول مدى قدرة كل من روسيا والقيادات العربية، وكذلك إيران، واللاعبين غير الحكوميين مثل "حماس" و"حزب الله"، في ابتكار شكل جديد لتوازن القوى في منطقة الشرق الأوسط.