منذ التوقيع على "اتفاق مكة"، لم تتوقف تصريحات الناطقين باسم حماس عن التأكيد بأن الحركة والحكومة لن تعترفا بإسرائيل، ولن تلتزما بالاتفاقيات السابقة التي أبرمتها السلطة مع إسرائيل، لكأننا أمام فريق من داخل حماس مسكون بهاجس فصائلي، يخشى من "الهزيمة" في معركة من غير معترك، أو لكأننا بهذا الفريق يرى في علاقة فتح بحماس، مبتدأ الجملة الفلسطينية وخبرها.

ما هكذا تورد الإبل، أيها السادة في "بعض حماس"، نحن وإياكم ندرك تمام الإدراك فارق المعنى بين "الالتزام" بالاتفاقيات وقرارات الشرعية العربية والدولية و"احترامها"...نحن وإياكم ندرك أتم الإدراك "درجات الاعتراف بالآخر وطبقاته"، فما ورد في اتفاق مكة يشتمل على أدنى درجات الاعتراف الواقعي بإسرائيل وهذا يكفي في هذه المرحلة على الأقل، بيد أن المبالغة في الشرح والتوضيح، في التفسير والتبرير، لا تخدم الاتفاق ولا الغاية منه أساسا: ترتيب البيت الفلسطيني ورفع الحصار المضروب بقسوة على شعب فلسطين.

دعوا السلطة والرئاسة، رعاة الاتفاق وأصدقائهم، يعملون على تسويقه وتسويغه بهدوء، فالاتفاق لم يقابل بترحيب غير مشروط من أي عاصمة عربية أو دولية، فجميع هذه الأطراف، بمن فيها الأكثر ابتهاجا بالاتفاق، تعرف ثقوب وعيوبه، وتعرف مواقع الألغام والأفخاخ المبثوثة فيه، وليس ثمة من داع لمزيد من الشروحات والهوامش، التي ستجعل مهمة هؤلاء صعبة للغاية.

حماس، شأنها في ذلك شأن فتح، قدمت تنازلات "معينة" لجعل اتفاق مكة المكرمة ممكنا، ومن غير الجائز لبعض حماس أن يجعل هذه التنازلات تذهب سدى وهباء بتطوعه ليل نهار إطلاق التأكيدات وقطع أغلظ الأيمان بأن الاعتراف بإسرائيل لم يقع ولن يقع، وأن حماس لم تتزحزح ولن تتزحزح قيد أنملة عن ثوابتها وإيديولوجيتها.

تخطئ حماس أن هي ظنت بأن حلّ إشكالاتها مع فتح، يعني خروج الشعب الفلسطيني من عنق الزجاجة الضيق الذي اعتصره طوال عام أو يزيد، فالاتفاق إن لم يلق رواجا عربيا وقبولا من بعض المجتمع الدولي، حتى لا نقول من كل القوى الفاعلة فيه، سيسقط عند معبر رفح وحاجز قلنديا و"رعب" البنوك والمصارف من القوائم السوداء، والاتفاق أن لم يجر الدفاع عنه بوصفه تعبيرا عن "جديد" السياسية الفلسطينية، لا امتدادا لقديمها، سيصبح "كادوك" حتى قبل أن يجف حبره، والمهمة الأولى الآن ليس مخاطبة حلفاء حماس الأكثر تشددا وإقناعهم بأن حماس لم تتغير، الأولوية الأولى يجب أن تعطى الآن، لمخاطبة خصوم حماس الأشد تعنتا، وإقناعهم بأن حماس تتغير، وإلا يصبح حجيجنا إلى مكة وحواراتنا في رحاب حرمها الشريف، لا طائل من ورائها.

قليل من الصمت والابتعاد عن عدسات الكاميرات، يبدو مطلوبا اليوم أكثر من أي وقت مضى، فإذا كان السكوت من ذهب كما يقول المثل العربي، فإن الواقع الفلسطيني يؤكد أن السكوت في بعض الأحيان له قيمة لا تقدر بثمن، ومن ليست لديه كلمة طيبة بحق الاتفاق والتهدئة والشراكة وحكومة الوحدة وأولوية رفع الحصار ووقف الاستيطان والجدار والتفرغ لمعركة الأقصى، فليصمت، فقد آن للفلسطينيين أن يفيقوا من كابوس الاقتتال وشبح الحرب الأهلية، وأن يتصدوا موحدين للأنياب الاستيطانية الحادة التي تنهش المسجد الأقصى وحائط البراق.

الدستور