لست خبيراً عسكرياً لكن ما أعرفه من معلومات يقول إن العراق بدأ برنامجاً صاروخياً طموحاً في الثمانينات بالاشتراك مع الأرجنتين ومصر، وبعد ذلك انسحبت الدولتان لأسباب مختلفة منها الضغوط الأمريكية، أما العراق فتابع برنامحه الصاروخي الخاص بتطوير صواريخ أرض – أرض وحيدا وحقق اختراقات مهمة توجها بقصف الكيان الصهيوني عام 1991 للمرة الأولى في تاريخ هذا الكيان. ورغم أن الصواريخ التي نزلت على الكيان الصهيوني كانت قليلة العدد وأحدثت خسائر محدودة إلا أن ذلك اعتبر زلزالاً استراتيجياً فقد سببت هذه الصواريخ انهيار نظرية أساسية قام عليها الكيان الصهيوني، وهي تقول إن تحقيق أمن العمق الصهيوني يتم عبر خوض الحروب على أراضي العرب وبالتالي التوسع المستمر لخلق عمق صهيوني آمن. لقد سقطت نظرية العمق الصهيوني الآمن و سقطت أهمية الجغرافيا الصهيونية. ودلت،هذه الصواريخ، المقاومين على ما يتوجب عليهم فعله في ظل سيطرة جوية وتفوق تكنلوجي صهيوني – أمريكي مطلق، فالدول الراغبة بتطوير قدراتها الردعية لتوازن التفوق الجوي الكاسح للقوى العظمى باتت تستطيع ذلك بامتلاكها قدرة ردع صاروخية بسيطة التكلفة ولا تستطيع لا تكنلوجيا الأقمار الصناعية ولا الطائرات النيل منها. وفي عالم اليوم لا يوجد دولة تحترم نفسها وذات حد أدنى من الاستقلال الاقتصادي أو السياسي لا تمتلك برنامجاً لصواريخ أرض – أرض. وكان من الطبيعي أن يلتقط المقاومون في لبنان الأمر ليوازنوا تفوق العدو الصهيوني جوياً، فرأينا النتائج في حرب تموز التي حولت الكيان الصهيوني إلى خرقة مبلولة بفضل السلاح الصاروخي. وأقول لكم انتظروا الصواريخ التي يطورها المقاومون في غزة المحاصرة عندما تصل إلى الضفة الغربية المحتلة عندها سيصبح الكيان الصهيوني كاملاً في مرماها، وخاصة أن عمقه الإستراتيجي المتمثل في منطقة تل أبيب لا يبعد عن جنين إلا حوالي خمسة عشر كيلومتراً. عندها لن يعصم هذا الكيان من الزوال لا سلاحه النووي ولا طائراته ولا كل تطوره التقني.

كان هذا أول درس قدمه العراق للبشرية. أما الدرس الثاني فكان اقتصادياً. فقد أقدم على خطوة تتم لأول مرة في التاريخ وهي تسعير النفط باليورو بدلاً من الدولار، وهذا أمر أرعب الولايات المتحدة الأمريكية، ويقال إن هذه الخطوة كانت سبباً رئيسياً لشن الحرب على العراق، فالتقديرات الاقتصادية تقول إن الدولار سيفقد حوالي 40% من قيمته فيما لو سعرت منظمة أوبك النفط باليورو بدل الدولار، فالنفط اليوم يشكل الاحتياطي الموازن للدولار كما كان الذهب في الماضي، فالولايات المتحدة تستطيع أن تطبع دولارات بقيمة النفط في العالم لأن كل من يريد شراء النفط يجب أن يشتري الدولار. وبالتالي فهي تمول عجزها المتفاقم عن طريق طباعة دولارات رصيدها الوحيد النفط الذي لا تملكه.

بعد خطوة العراق هذه أدرك أعداء الولايات المتحدة أن أهم وسيلة لتدميرها هي الضغط على الدولار، فأوقفت كوبا قبل سنتين تعاملها بالدولار لصالح اليورو،وقبل أيام أقدمت ايران على نفس الخطوة ، وأما الصين فتتخلص من الدولار بهدوء وبالتدريج على طريقة الصينيين المعروفة، وبعد قليل ستقوم فنزويلا بتسعير نفطها باليورو ثم ستكر السبحة فالدولار كعملة بدأ بالانهيار وعندما يحدث ذلك سينهار اقتصاد الولايات المتحدة الذي صار يعتمد أكثر فأكثر على طباعة عملة لا رصيد لها سوى الجبروت والوهم والقوة العسكرية والنفط. وعند انهيار الدولار سينهار الجيش الذي يتم تمويله من طباعة عملة ورقية لا قيمة لها سوى العوامل السابقة.

أما الدرس الثالث الذي قدمه العراقيون للبشرية فهو إمكانية تحول الجيوش الثقيلة المقاتلة بعددها وعتادها إلى مقاتلي حروب عصابات وهذا أمر لم يحدث في التاريخ العسكري من قبل، إذ من المتعارف عليه أن ثواراً يقودون حرب عصابات ضد جيش نظامي وعندما ينتصرون يتحولون إلى جيش نظامي. أما أن ينقلب أعضاء جيش نظامي إلى مقاتلي حرب عصابات ويخوضوا حرباً ثورية ضد جيش آخر فهذا إبداع يحتاج إلى كم هائل من الخيال والقوة والتصميم، وأهم من ذلك يحتاج إلى عقيدة ثابتة لا تهزها النوائب، وقد امتلك العراقيون كل ذلك فكانت النتيجة أن أغرقوا الإمبراطورية الأمريكية، وأنقذوا أنفسهم، والعرب، والبشرية. لأن المصير الذي جهزه الأمريكان للعراقيين والعرب هو الإبادة، أو العيش في معازل على طريقة الهنود الحمر بعد أن يطلق الأمريكان آليات فوضى وحروباً أهلية و صراعات تأكل الأخضر واليابس،ومن هنا تبدو تضحيات الشهداء العراقيين ثمناً قليلاً مقارنة بالمصير المظلم الذي كان الأمريكان قد جهزوه لهم خصوصاً وللعرب عموماً،فهم كانوا سيدفعون ملايين القتلى (قتلى و ليس شهداء) في صراعات لا طائل من ورائها، على عدة أجيال حتى تصبح أرضهم خالية من السكان كما حدث للهنود الحمر.

إن العراق الذي أعطى البشرية أول كتابة وأول قانون وأعظم حضارة في العهد العباسي أنقذ البشرية من المصير المظلم الذي كان يعده المحافظون الجدد لها. وهو في معاناته واحتراقه اليوم يشبه السنبلة التي تجف لتملأ الوادي سنابل على ما يذهب الشاعر العربي.