صبحي غندور *(مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)

مهما حاولت الإدارة الأميركية التخفيف من وطأة الكلام الثقيل الذي قاله الزعيم الروسي بوتين في مؤتمر ميونيخ حول السياسة الأميركية الراهنة، فإنّ مواقف بوتين هي مؤشّر هام على نمط روسي جديد في العلاقة مع واشنطن، وفي كيفية التعامل مع الأزمات الدولية القائمة حالياَ.

فصحيح أنّ القيادة الروسية لا تريد في هذه المواقف السلبية من إدارة بوش تصعيد الخلاف بينهما، لكن مكان إطلاق هذه المواقف (مؤتمر ميونيخ) وحضوره الدولي الهام، جعلها تكون بمثابة تقييم روسي دقيق للسياسة الخارجية التي تتبعها إدارة بوش، والتي تقوم على القوة العسكرية والانفرادية في القرار الدولي وعدم احترام مرجعية الأمم المتحدة.

إنّ روسيا تنظر الآن إلى السياسة الأميركية على أنها مصدر خطر مباشر على المصالح الروسية. وقد قال ذلك صراحة رئيس هيئة أركان الجيش الروسي (يوري بالويسكفسكي) في مؤتمر أمني بموسكو يوم العاشر من الشهر الجاري. أيضاً، تحذّر موسكو من سياسة واشنطن العاملة على نشر منظومة صواريخ في عدد من دول أوروبا الشرقية، وتعتبر ذلك تهديداَ للأمن القومي الروسي.

موسكو تدرك أيضاً أنّ الوجود العسكري الآن في منطقة الخليج العربي وفي أفغانستان وفي العراق وفي جمهوريات آسيوية إسلامية، هو بمثابة تطويق شامل للأمن الروسي يتكامل مع امتداد حلف الناتو في أوروبا الشرقية.
إذن، تصريحات بوتين ليست مجرّد "زلات لسان" بل هي ضوء ساطع على ما يتفاعل داخل القيادة الروسية من استعدادات لدور روسي هو أكثر فاعلية الآن في مواجهة السياسة التي تسير على خطاها إدارة بوش.
وفاعلية الدور الروسي لن تكون بالضرورة عودة إلى أجواء الحرب الباردة وإلى سباق التسلح بين موسكو وواشنطن، لكن "الدب الروسي" سيسير بخطى ثابتة، ولو بطيئة، لاستعادة بعض مواقع النفوذ التي فقدها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي.
ولم تكن صدفة أن تتزامن مواقف بوتين الأخيرة ضدّ سياسة واشنطن مع جولته في المنطقة العربية حيث اختار الرياض والدوحة وعمان، وهي عواصم تربطها علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، لكي تكون هذه الجولة بداية لمرحلة تصعيد الاهتمام الروسي في قضايا الشرق الأوسط وفي العلاقات مع الدول العربية عموماً.

إن القيادة الروسية تدرك حجم الآثار السلبية التي تنتج عن سياسة إدارة بوش في العراق وفي ملف الصراع العربي/الإسرائيلي وحيال إيران، كما تدرك انعكاسات هذه السياسة الآن في لبنان وفلسطين وعموم منطقة الشرق الأوسط.

وتدرك أيضاً القيادة الروسية المخاوف العربية من تصاعد النفوذ الإيراني، والذي هو حصيلة فراغ دولي في المنافسة مع السياسة الأميركية، إذ ينظر الكثيرون من الرافضين للسياسة الأميركية إلى إيران على أنها قوّة توازن إقليمي يمكن الاعتماد عليها في مواجهة الغطرسة العسكرية لإدارة بوش، وهو أمر لم يكن قائماً في حقبة الحرب الباردة حيث كان القطب المنافس آنذاك هو روسيا السوفييتية التي كانت تربطها علاقات وطيدة مع عدة دول عربية. وقد ضعف النفوذ السوفييتي في المنطقة منذ قرار الرئيس المصري السابق أنور السادات بالتخلّي عن العلاقة مع موسكو لصالح واشنطن، وفي أشدّ مراحل "سخونة" الحرب الباردة خلال منتصف السبعينات من القرن الماضي.

الآن تعود موسكو غير الشيوعية إلى دول المنطقة وهي ما زالت دولةً كبرى قادرة على المنح والمنع معاً. وقد استطاع بوتين في سنوات حكمه أن يحسّن الوضع الاقتصادي الروسي وأن يخفّف العجز المالي للدولة وأن يسدّد ديونها الخارجية مستفيداً من ارتفاع أسعار النفط وتحوّل روسيا لدولة مصدّرة للطاقة.

وكم هي مفارقة هامة ذاك التباين الملموس بين ظروف بوتين السياسية داخل روسيا وبين ظروف بوش في الداخل الأميركي. فكلاهما على موعد لترك منصب الرئاسة خلال العام 2008 (حسب نصوص كلٍّ من دستور البلدين)، لكن بوتين يتمتّع بنسبة عالية من التأييد الشعبي لدرجة يطالب البعض معها بتعديل الدستور للسماح له بفترة ثالثة، وهو يرفض ذلك. أمّا الرئيس الأميركي فهو في أدنى مستوى له من التأييد الشعبي، وتترقّب غالبية الأميركيين موعد مغادرته للبيت الأبيض.
لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ بوتين يوظّف الآن "شعبيته" الروسية ضدّ انخفاض شعبية بوش أميركياً وعالمياً. فالزعيم الروسي يكسب في مواقفه الأخيرة مزيداً من التأييد الشعبي داخل روسيا بينما لا يستطيع الرئيس الأميركي الردّ الحازم على بوتين في قضايا تتّفق معه فيها غالبية الأميركيين. فأكثر من ثلثي الشعب الأميركي (حسب استطلاعات الرأي العام) يوافقون عملياً على مضمون تصريحات بوتين قبل أن يدلي بها لجهة مخاطر السياسة الخارجية التي تتّبعها إدارة بوش.

حتماً لن يندفع بوتين في نقده إدارة بوش إلى حد إثارة أزمة مع واشنطن، فهو يحرص أيضاً على نموّ العلاقات مع دول الغرب وأميركا تحديداً، لكن سيواصل بوتين تحرّكه السياسي الدولي المستفيد من خطايا السياسة الأميركية، وفي ذلك فوائد سياسية واقتصادية وأمنية لروسيا الاتحادية، وهو يدرك أن الانفرادية الأميركية تحوّلت الآن إلى انفرادية "بوشية" بعدما سيطر الحزب الديمقراطي على الكونغرس الأميركي، وفي ظلّ التعثّر الأميركي في العراق وتواصل تدنّي حجم المؤيّدين للرئيس بوش داخل المجتمع الأميركي.

ماذا يعني كلّ ذلك عربياً؟

طبعاً هناك مصلحة لكل دول العالم بتصحيح الخلل الحاصل في ميزان العلاقات الدولية، وبالعودة إلى مرجعية دولية متوازنة في التعامل مع الأزمات القائمة الآن، وبالضغط على إدارة بوش لوقف التفرّد الأميركي الحاصل في تقرير مصير نزاعات العالم بل وفي إحداث بعض هذه النزاعات.

وإذا أحسن الروس والعرب توظيف هذه المرحلة، فإنّ ذلك قد ينعكس إيجاباً في دفع واشنطن للعودة إلى توصيات مجموعة بيكر/هاملتون وإقامة مؤتمر دولي- إقليمي يتعامل مع كل أزمات المنطقة ويضمن تسويات شاملة لها.

لكن سيكون من الحماقة تكرار الأخطاء العربية التي حصلت على مدى أكثر من قرن من الزمن، بالمراهنة على طرف خارجي (إقليمي أو دولي) في تحقيق المصالح العربية بأبعادها الوطنية والقومية.
المصالح الوطنية والقومية العربية تتطلّب أولاً الاعتماد على الذات العربية وتحسين واقع الحال العربي في أجزائه الوطنية وفي كلّيته العربية.

إنّ المنطقة العربية كلها على شفير الهاوية، وهي تعاني من صراعات عربية "رسمية" و"شعبية"، إضافةً إلى معاناتها من مشاكل الاحتلال والتدخّل الخارجي، ومن أزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية مزمنة في معظم بلدانها.
هذه الأوضاع السيئة هي التي شجعت أصلاً على التدخّل الخارجي والهيمنة الأجنبية. والأهم المطلوب هو تصحيح "الثقل العربي" قبل وضعه في أي ميزان للعلاقات الدولية.