أعادت سوريا علاقاتها الدبلوماسية مع العراق في شهر ديسمبر الماضي خلال زيارة وزير خارجيتها وليد المعلم إلى بغداد بعد خمسة وعشرين عاماً من الانقطاع، وصدرت في حينها تصريحات من مختلف الأطراف في البلدين تشيد بهذه الخطوة وتؤكد على أهمية التعاون بينهما وعلى حرص سورية على أمن العراق ووحدته، وبشر جميع المسؤولين ذوي العلاقة أن تبادل السفراء على الأبواب وساد اعتقاد بأن العلاقات بين البلدين قد رُممت وهي على وشك انطلاقة نوعية وتوسع متعدد الجوانب، وأن المحادثات التي أجراها وزير الخارجية السورية كانت ناجحة وصريحة وشفافة وذات جدوى.

في الشهر التالي أي يناير الماضي وبعد أيام من زيارة وزير الخارجية السوري قام جلال الطالباني رئيس جمهورية العراق بزيارة رافقه فيها وزراء ورؤساء كتل نيابية كان من المفروض أن تدوم ثلاثة أيام فاستطالت حتى بلغت سبعة أيام، تم خلالها توقيع عدد من الاتفاقات الثنائية وخاصة في المجال الأمني مع توجهات واضحة نحو تمتين العلاقات الاقتصادية وتمديد أنابيب لنقل النفط العراقي إلى سواحل المتوسط عبر الأراضي السورية، فضلاً عن تناول أهمية العمل المشترك في سبيل (أمن العراق ووحدة أراضيه واستقراره وازدهاره) وغير ذلك من المواضيع التي تعرض لها بإيجابية البيان المشترك الذي صدر بعيد الزيارة.

اعتقد الجميع في سورية والعراق وربما في البلدان العربية الأخرى أن العلاقات بين البلدين وضعت على سكة التقدم والتطور والسلامة، وصدرت تحليلات صحافية (وسياسية) عديدة حول المراحل التي قطعتها وأسباب الانفتاح المتبادل رغم الهجوم الأميركي المتصاعد على الموقف السوري من العراق ومطالبة سورية تغيير سياستها تجاه ما يجري فيه، حتى أن البعض أشار إلى أن الطالباني حمل رسالة شفوية إلى سورية من الإدارة الأميركية وزارها بمعرفتها وموافقتها وأنه بصدد لعب دور الوسيط بين الطرفين، ووُجد من قال إن سورية تريد إرضاء الإدارة الأميركية من خلال مساعدتها (غير المباشرة) للحكومة العراقية، وتفاءل من تفاءل نتيجة هذه السياسة وخشي من خشي وغضب من غضب ولكن سرعان ما تغيرت الظروف حتى كادت أن تنقلب رأساً على عقب خلال أسابيع.

استقبل الرئيس بشار الأسد في دمشق مطلع فبراير الشيخ حارث الضاري رئيس هيئة علماء المسلمين استقبالاً ودياً وحاراً وعبّر الخبر الرسمي الذي تداولته وسائل الإعلام السورية تعبيراً إيجابياً عن الزيارة ومجرياتها وأهمية نتائجها، ومن المعلوم أن الحكومة العراقية أصدرت في نوفمبر الماضي مذكرة توقيف بحق الشيخ الضاري بتهمة تغذية (الفتنة الطائفية)، وبعد يومين من استقبال الضاري انفجرت سيارة تحمل طناً من المتفجرات في سوق الصدرية في بغداد نتج عنها مئات القتلى والجرحى وصدر بعدها مباشرة وبشكل غير متوقع تصريح للناطق باسم الحكومة العراقية الدكتور علي الدباغ قال فيه: (أؤكد أن خمسين بالمئة من هذا القتل وهذا التفخيخ هو من هؤلاء العرب التكفيريين الذين يأتون من سورية ولدينا ما يثبت ذلك).

وقد اعتبر البعض السوري أن هذا التصريح يعبر عن رأي بعض الفئات داخل الحكومة العراقية وليس عن رأيها كلها رغم أن المصرح هو الناطق باسمها، ولكن تصريحات نوري المالكي رئيس الوزراء التي تلتها لم تترك مجالاً للشك بان حكومته قررت سياسة جديدة تهاجم من خلالها الحكومة السورية بعنف غير مسبوق ولا يتناسب مع التطورات الجارية منذ ثلاثة أشهر، ومما قاله المالكي (نتمنى على الذين يعلنون شعارات من دول الجوار تتحدث عن تجربتنا أن ينظروا إلى تجاربهم وكيف يتعاملون مع الغالبية والأقلية ومع إرادة شعوبهم قبل أن يتحدثوا عن إرادة شعبنا.. فلينظروا ما يفعلون في شعوبهم قبل أن يتحدثوا في وضعنا الحالي.. أعرف لماذا يعارضون لأنهم يخافون امتداد الحرية والديمقراطية (!!) وحقهم أن يخافوا لأنهم استنساخ من الديكتاتورية التي كانت تحكم العراق.. إننا لن نسكت إلى مالا نهاية عن الذين يتدخلون في شؤوننا ويدعمون الإرهاب...).

ومن الجلي هنا أنه يقصد سورية من أول كلمة في تصريحه إلى آخر كلمة. ولم ترد الحكومة السورية ولا وسائل الإعلام السورية على تصريحات المالكي حتى الآن وتجاهلتها تماماً. وزاد الأمر سوءاً تصريحات السيد هوشيار زيباري وزير خارجية العراق الذي حمل سورية مسؤوليات كبيرة عما يجري في العراق وعن مواقفها تجاه العراقيين فيها، فما الذي جرى حتى انقلب سير العلاقات من خطوة إلى الأمام إلى خطوتين إلى الوراء؟.

تؤكد سورية في كل مناسبة أنها مع أمن العراق ووحدة أراضيه واستقراره، وتطبيقاً لهذا زار وزير خارجيتها بغداد واستقبلت جلال الطالباني وعبرت عن رغبة جادة في الانفتاح والتعاون، وترى السياسة السورية ـ في الوقت نفسه ـ وعلى لسان الرئيس الأسد في مقابلة مع شبكة (إي بي سي) التلفزيونية الأميركية (أن إدارة الرئيس الأميركي بوش لا تمتلك رؤية لإحلال السلام في العراق وأن دمشق يمكنها أن تضطلع بدور كبير في الجهود الدولية لإخماد العنف الطائفي في هذا البلد) وتحدد السياسة السورية في كل مناسبة مطالبتها بانسحاب قوات الاحتلال من العراق كخطوة أولى لابد منها لحل مشاكل العراق.

فماذا تغير إذن حتى يضطرب سير العلاقات إلى هذه الدرجة من التباعد بل والتناقض؟ هي يعود السبب لوجود رسالة أمريكية غير مباشرة نقلها الطالباني وكان الرد السوري عليها سلبياً خاصة وأن البعض يقول أن الأميركيين يطلبون من سورية أن توظف كل إمكانياتها في العراق لصالح الأميركيين دون مقابل ودون أن تكون شريكاً أو حتى متعاوناً بل طرفاً مذعناً وهذا ما جعلها ترفض مثل هذا الطلب وعاد الطالباني نتيجة ذلك صفر اليدين وهذا ما أزعج الإدارة الأميركية وحلفاءها في العراق..

أم هل يعود السبب لاستقبال الرئيس الأسد الشيخ الضاري مما يؤكد دعمه للمقاومة والفئات المعادية للحكومة وللاحتلال والمطالبة برحيله، أم أن حكومة المالكي تحاول أن تبحث عن عدو تحمله أعباء فشلها الأمني وليس افضل من سورية لحمل هذا العبء. أم أن الإدارة الأميركية بدأت تسحب البساط من تحت ما تبقى من النفوذ السوري في العراق وفلسطين ولبنان بخطوات متسارعة وحازمة وبالتالي فإن السياسة العراقية الحالية تجاه سورية هي جزء من الخطوات الأميركية الجديدة!

على أية حال لم تتمم العلاقات بين سورية والعراق مسيرتها التي توقع الجميع أن تسلكها، وعادت هذه العلاقات إلى حذرها السابق وإلى عدم الثقة المتبادلة بين حكومتي البلدين.

بقي تساؤل ليس قليل الأهمية هو هل تلعب السياسة الإيرانية دوراً في تهدئة اضطراب العلاقات هذا بين سورية والعراق مستفيدة بذلك من نفوذها لدى حكومة المالكي وفي العراق عامة؟ أم أن السياسة الإيرانية على تباين مع السياسة السورية المتعلقة بالشأن العراقي، رغم العلاقات المتينة بين إيران وسورية؟

لعل هذا ما يجري البحث فيه الآن على أعلى المستويات بين سورية وإيران، خاصة بعد انفراد السياسة الإيرانية بمعالجة قضايا لبنان والعراق وفلسطين مع دول أخرى وإبقاء التشاور مع سورية وأخذ رأيها وراء ستار.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)