ما يحدث في كركوك اليوم ليس شأنا عراقيا بالمعنى العام، لأنها النموذج القادم إلينا، بعد سلسلة من "التبدلات" التي تثير إشارات استفهام. فمعالجة النتائج المترتبة عن المراحل التاريخية يتم انطلاقا من إضفاء هوية على المدينة بعيدا عن وجود "دولة" جامعة للعراق بشكل كامل. فعندما جرى التهجير السابقة لما يسمى العائلات العربية إلى كركوك كان يعبر عن عدم ثقة "الدولة السابقة" بشرعيتها وقدرتها على انتماء كل المواطنين إليها. وما يحدث اليوم يجري على نفس المقاس، فهو ينقل عن الثقة في الدولة الجديدة والعودة إلى المراحل التاريخية السحيقة لـ"دول المدن" التي تحوي عرقا أو فئة أو طائفة ضمانا لاستقرارها.

ربما علينا "التخيل" قليلا واستخدام الابداع "الهوليودي في رسم صورة كركوك.. فماذا لو تم تطبيق ما يحدث فيها اليوم على مدن في العالم، وعلى الأخص في الولايات المتحدة!!!

أو ماذا لم قمنا بقياس هذا المذهب على "شريعة حقوق الإنسان"...

بالنسبة لكركوك فإنها نافذة مشرعة على طبيعة التفكير بالدولة على قياس "الشرق الأوسط" وفق النموذج العراقي المستحدث، فعندما تتقلص صلاحيات الدولة، ويتم تجزئة الحقوق فيها وفق المدن التي تريد أن تستلب كل مهام الدولة فإننا لا نواجه "توزعا سكانيا" تاريخيا، بل اقتسام الجغرافية خارج إطار الدولة بمفهومها الحديث، والعودة إلى "دولة – الخلافة" التي تكتفي بالسلطة الاسمية وربما ببعض الضرائب، بينما لا تضمن لمواطنيها حق العمل والتنقل والإقامة داخل أي مكان من أراضي الدولة.

"هوية" كركوك هي المأزق الأساسي لمسالة الدول التي يتم رسمها في "مختبرات" مراكز الأبحاث.. فهذه الهوية التي يتم تحديدها تتم خارج إطار "الدولة" مهما كان نظامها السياسي، وهذا الموضوع لا يخدم حتى التنوع الموجود، ولا حتى رغبة البعض في "الانفصال" لأن بداية تحديد "هوية" المدينة يتم على أساس التعامل مع الأزمة على أنها أمرا واقعا.

مدن الشرق الأوسط يمكن النظر إليها على واقعها الطبيعي، أو كسر الواقع والتعامل معها على أنها إطار سكاني مستقل عن مفهوم الدولة، وبالتالي فإننا نستطيع إعطاءها هويات متعددة، لا تقتصر على المقياس الذي يتم اعتماده في كركوك، فإثارة مثل هذا الموضوع ممكن وفق صور مختلفة تبدأ بالعصبية للأحياء والعائلات وتنهي بإضفاء هويات عرقية أو مذهبية أو دينية.

"دولة – المدينة" اليوم تختلف جذريا عن بداية الحضارة في منطقة ما بين النهرين، فقديما ظهرت وفق سياق تأسيس حضارة، وهي اليوم "ضرورة" لتأسيس أزمة يتم تركيبها على ازمة سابقة أوجدتها النظم السياسية السابقة منذ مراحل الاستقلال.