حلّقت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بطائرة عسكرية في سماء بغداد لنصف ساعة، كما لو كانت تراقب احجار الدومينو الإيرانية في المنطقة، في بدء عملية تفكيك المسارات التي أحكمت ربطها الجمهورية الإسلامية، من طهران مروراً ببغداد الى دمشق فبيروت فغزة.

لم تكن رايس تراقب طائرة الرئيس السوري بشار الأسد وهي تحط في مطار العاصمة الإيرانية، فلإدارة الرئيس جورج بوش أولوياتها، ومعركة «الفرصة الأخيرة» في العراق تخوضها مع حلفاء طهران ضد بعض من آوتهم الجمهورية الإسلامية في حقبة صدام حسين، وقد يعودون إليها لاجئين مجدداً... إذا اكتملت «صفقة» بين واشنطن وإدارة المرشد علي خامنئي، لا يحجب خيوطها غبار القتال في بغداد.

وبين الأميركيين من يرى في أولويات الاستراتيجية الإقليمية الجديدة لبوش، التزاماً برؤية «الأصل» الإيراني للأزمات، و «الفرع» السوري الذي لم تعد واشنطن قادرة على التعامل معه إلا بوصفه «تابعاً» لنفوذ طهران المتمدد في المنطقة. بل لعلها تراهن على تباين المصالح بين سورية والجمهورية الإسلامية، في مرحلة الاندفاعة الأميركية القوية لإعادة ترتيب الخريطة السياسية للمنطقة. وبافتراض تعمّق القلق السوري من تداعيات تلك الاندفاعة، وكيفية «تجاوب» طهران معها، يمكن ايضاً افتراض مبررات مشروعة لذاك القلق الذي لا يبدده بالطبع تفاؤل بيان أصدره الرئيس محمود احمدي نجاد لدى استقباله الأسد، متلمساً «أفول اميركا والصهيونية»! إذ لا يخفى على طهران ولا دمشق مغزى «رسالة الردع» الأميركية، المتمثلة بتعزيز الأساطيل في الخليج، ولا رسائل التهديد الإسرائيلية التي تتوعد بضرب المنشآت النووية الإيرانية.

وقد يقال ان لقلق سورية مبررات أخرى تتجاوز الخوف على الحليف الإيراني، أو من انجراره الى صفقة - تسوية مع الأميركي، في حال ارتضى النموذج الكوري في الملف النووي. فالملف اللبناني يبدو بامتياز محور مقاربات ايرانية - سورية متباينة، إذا حانت ساعة التسويات، وواضح ان اكثر ما تتوجس منه دمشق هو المحكمة الدولية، محور الصراع في لبنان على أولوية التسويات مع حلفاء سورية وإيران. بل ان هناك من يعتبر المحكمة سورياً، معركة مصير تقارب وصف الجمهورية الإسلامية لبرنامجها النووي، وإن بخطين متعاكسين.

قبل وصول الرئيس الأسد الى طهران، اختار نجاد توجيه رسالة الى من يعنيهم امر لبنان، معتبراً البلد عضواً «مجروحاً» في «جسم واحد» مع ايران. تذكّر كثيرون بالطبع المقولة الشهيرة للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الذي وصف اللبنانيين والسوريين بأنهم شعب واحد في بلدين، لم يكونوا بالتالي في حاجة الى تبادل سفارات. والأكيد ان ما فات نجاد هو «اكتشاف» موقع سورية في الجسم الواحد، لكأنه يقول ان كفة ايران باتت هي الراجحة كشريك في تقرير التسويات في لبنان... وما على دمشق إلا ان تتكيف.

والسؤال هو هل سورية مطمئنة بالفعل الى الجمهورية الإسلامية التي تكاد ان تكون حليفها الوحيد - بعد اضطراب العلاقات العربية لدمشق - لن تذهب بعيداً من مصالحها، في حال حسم خامنئي أمره حيال مشاريع الصفقة أو الحوار مع واشنطن. ولمن لا يعرفون قصة الفاكس الإيراني الذي تضمن عرضاً للحوار عام 2003، يكفي اعتراف الوزيرة رايس بوجود قنوات جديدة للاتصال بطهران. ولمن يتمسكون بتشدد خامنئي مع «العدو» الأميركي، قد يكفي للتذكير اختيار المرشد مستشاره وزير الخارجية السابق علي اكبر ولايتي، ليطلق «رسالة» حوار الى الولايات المتحدة، مفضلاً الحل السياسي لأزمة الملف النووي، ومعترفاً بـ «المحرقة» اليهودية، كأنه يعلن ان نجاد لا ينطق بلسان الدولة!

وبعيداً من ملامح الصراع على القرار في طهران، يبقى اكيداً ان اعادة ترتيب الخريطة السياسية في المنطقة، انطلاقاً من العراق وإخماد نار الحرب الأهلية فيه لتبديد مشاريع تقسيمه، ستتطلب شهوراً ومفاجآت، إذا قررت ايران «تكييف» سلوكها لتفادي حرب مع الأميركيين في مقابل إنقاذ «الفرصة الأخيرة» لبوش، ورسم نظام اقليمي جديد.

أما موقع سورية فيه فيبقى مدعاة لمزيد من القلق لديها، في وقت تصر واشنطن على تصنيف لبنان «جبهة امامية في الصراع بين التطرف والاعتدال»، وتصر على مزيد من الضغوط تشددها على دمشق، من نوع المكافأة الأميركية التي خصصت لاعتقال زعيم «الجهاد الإسلامي» رمضان عبدالله شلح... لكأن إدارة بوش تقتدي بالنموذج التركي الذي أملى على سورية حسابات «واقعية»، ففضلت التخلي عن عبدالله أوجلان لتفادي حرب.

لعل من الواقعية ايضاً، في حسابات ايران، تشجيع «حزب الله» على الانغماس في تفاصيل الحياة السياسية في لبنان... كواحد من مظاهر «التكيف» مع الخريطة الجديدة، في مرحلة التسويات. ولكن، وكما في كل تسوية، لا بد من ثمن، من طهران الى بغداد وبيروت و...

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)