السفير

الحالة الحاضرة في لبنان هي حالة جماعات بشرية لا تعرف معنى النظام، تقودها قيادات لا مصلحة لها في وجود نظام تنتظم فيه حياة المجتمع والدولة.

ونحن اليوم، بعد كل المآسي التي عشنا بلاياها، ما زلنا تحت سقف نظام فاسد، وتحت سقف مفهوم فاسد لفكرة النظام. وفي أقصى ما توصلت اليه ثقافتنا السياسية، نعتقد، بيقين تام، ان الوحدة الوطنية هي الضرورة الأساسية الأولى لوجودنا، فيما هي، في صورة اقطابيتها التي دأبنا في إعادة روتشتها كلما تلطخت منذ عام ...1943 هي السبب الرئيسي لبلوى حياتنا: فسادا وتخلفا وتذابحا وإفلاسا.

أجل، نحن «تحت سقف» نظام فاسد، لأننا «تحت سقف» مفهوم فاسد للنظام. ما من شك في أننا نحن اللبنانيين أذكياء جدا، نحن، في المستوى الفردي، أذكياء وكرماء وشجعان ومؤهلون! وهذا يفسر نجاح اللبنانيين ـ بل تفوقهم ـ خارج لبنان، أينما حلوا في مجتمعات العالم الراقية المنظمة، على اختلاف أنظمتها السياسية!

نعم، نحن مؤهلون في المستوى الفردي، كلا منظورا إليه مفردا، ولكننا، في المستوى الجماعي، هنا في موطننا، نحن صفر! وقد تكون هذه معضلة حسابية يرفضها العقل العادي، إذ كيف يكون مجموع آحاد يساوي صفرا؟

نحن في المستوى الجماعي صفر، ولهذا، بعد أكثر من 63 عاما على استقلالنا، لم نتمكن من إنشاء نظام سياسي ديموقراطي حقيقي في بلادنا، رغم ذكائنا وشجاعتنا ومؤهلاتنا المميزة.

ان حل المعضلة الرياضية الماثلة لأبصارنا اليوم في حالتنا الحاضرة، جوابا عن السؤال: «كيف يكون مجموع آحاد مساويا الصفر؟»... هذا الحل يكمن في التعرف الى حقائق اجتماعية سياسية تاريخية أولية، أولاها ان الفكر السياسي الذي خبرته الأمم الحية المتطورة في ثوراتها ونهضاتها، وأنشأت به أنظمتها السياسية الراقية، تأسس على مفهوم مصلحة المجتمع، من حيث هو الحقيقة الإنسانية الكلية للشعب الواحد، لا على مفهوم جماعات منقادة قطعانا مطيعة، في حظائر ظلامية مسقوفة، تمتلكها ـ عيشا، وأمنا، ومصيرا ووجدانا ـ زمرة من القتلة واللصوص والوصوليين والعملاء... طبقة يوحدها «التناحر»، أساس نظام «التوافق» الخبيث الذي لم يعرف أذكياء الشعب اللبناني سبيلا للخلاص منه.

هل استمعت يوما الى واحد من قادة «أطراف التناحر» ولاحظت أنه نسي الكلام على تمسكه المطلق بـ «التوافق.. تحت سقف الطائف؟».
لا بالطبع! فالتوافق ضرورة لقيام نظام التناحر، إذ ما فائدة التناحر إذا هو لم يوصل الى التوافق على جبنة الحكم؟ تماما كما التناحر ضرورة لقيام التوافق، فإذا هم لم يتناحروا فكيف يصير «التوافق» ضرورة وطنية في مصلحة هؤلاء اللبنانيين الأذكياء الكرماء، الشجعان، المؤهلين... المساكين؟
يتظاهر اللبنانيون في حشود مليونية في الساحات العامة، تظاهرات ينظمها أهل الحكم، أهل التوافق، تظاهرات تناحرية لا يتعارض مضمونها الفكري السياسي بكلمة واحدة مع هذا النظام ذي الوجهين النقيضين: وجه يستقطب قطعان الطوائف الى الحظائر الظلامية «بالتناحر»، ووجه يضمن لمالكي القطعان الطائفية بقاء النظام «بالتوافق».
غبي من يعتقد ان هذا النظام الخبيث الفاسد له علاقة بالديموقراطية، فالديموقراطية مبدأ ونظام:
ـ هي مبدأ حكم الشعب نفسه.
ـ وهي نظام فصل السلطات.
فأول مقتضيات قيام نظام ديموقراطي هو ان يختار الشعب نظام حكمه في استفتاء شعبي عام. والشعب اللبناني لم يُستفت يوما في شأن نظام حكمه. فكيف يكون هذا النظام ديموقراطيا إذا لم يكن الشعب قد اختاره لنفسه، ليحكم نفسه، بل فرض عليه فرضا؟ وكيف يكون هذا النظام ديموقراطيا إذا كان قد استعيض فيه عن نظام فصل السلطات بنظام توزيع السلطات على أقطاب الحظائر الطائفية؟

وبعد... كل المشكلة تكمن في ما ندعوه هنا الشعب: هؤلاء الناس الذين هم أفراد المجتمع وأعضاء الدولة، والذي عانوا الويلات من نظام التناحر والتوافق وبلاياه، ولما تتظاهر فيهم الى الآن، قوى حية يتماثل فيها قبس من فكر اجتماعي سياسي يرشدهم الى العمل بمنهاج صادق صارم لتغيير الأحوال، في اتجاه قيام نظام ديموقراطي حقيقي يحل الارادة الشعبية المتولدة من وعي علمي معرفي لمصلحة المجتمع والدولة محل إرادة طبقة القتلة واللصوص والوصوليين والعملاء، المتابعة في عسفها وإجرامها في نظام التناحر والتوافق الضامن مصلحة أطرافها المشتركة.

في دول العالم الراقية، يتعلم الشعب الديموقراطية، مبدأ ونظاما في مدارس الدولة الابتدائية، في دروس عادية تدعى دروس التربية المدنية. وعندنا لا يسمع الشعب ـ حتى في تظاهراته المليونية ـ كلمة واحدة في نقد نظام التناحر والتوافق، وفي شرح أصول النظام الديموقراطي الحقيقي!

فأين يتعلم اللبنانيون كيف يكون النظام الديموقراطي؟!

أبسط منطق ان يؤكد أهل النظام صلاح نظامهم حين يشعرون بأن الشعب بات يشاهد ان نظامهم يروكب، وان مؤسساته تنهار، وان الدولة ما عادت قادرة على الحركة والفعل وباتت في «كوما». فمن مصلحتهم، إذاً، ان يعلنوا ان نظامهم متوعك، فقط، او في «كوما» عابرة ـ ان شاء الله ـ وان غرفة عناية فائقة، كغرفة الطاولة المستديرة للحوار، كفيلة باستعادته الى الحياة، فليطمئن اللبنانيون!!

نتكلم على القوى الحية، إذا وجدت، وما من احد يجرؤ على إنكار وجود قوى حية في لبنان مع هذا الكم الهائل من المواطنين المثقفين المخلصين، نتكلم على هذه القوى كرهان تاريخي أوحد للخلاص، لان عملية التغيير الجذري تقتضي قوى حية فاعلة تصنعها.

القوى الحية هي معقد الأمل الأول والأخير، فإذا هي لم تخرج من سكونها الى الحركة والفعل بقيت البلاد رهن أهل «التوافق والتناحر» ورهن الارادات الأجنبية المخترقة وجودنا وحياتنا بها.

وعندنا في لبنان كل الظروف التاريخية المؤاتية ـ وفق قانون التحيد والاستجابة ـ لخروج القوى الحية من سكونها:
ـ عندنا جرائم الحكام وتواطؤهم على أقدس المصالح الوطنية، واستلابهم خيرات البلاد!

ـ عندنا أنشطة السفارات، وأنشطة السفراء المتابعين بلا كلل ولا وهن مصالح دولهم في مكاتب وزرائنا!
ـ وعندنا الوصاية الدولية المذلة في قرارات دولية أصدر فرماناتها الإقطاع الدولي الرابض على أرضنا وبحرنا وجونا، جيوشا للحصار والمراقبة والتأديب والعقاب.

... وعندنا، اذاً، كل ما يستثير عقلا عاقلا ونفسا أبية، وكل ما يستنفر مناقبنا وعزائمنا وقوانا العاقلة... وأخيرا كل ما تحتاج اليه بلادنا من قوى شعبنا الحية، هذا الشعب الذي اثبت ويثبت هنا في لبنان ـ كما في فلسطين المحتلة والعراق المقاوم ـ انه شعب قادر على المواجهة ومستعد للتضحية حتى بالدماء التي تجري في عروقه!

... نقول، عندنا في لبنان اليوم كل الظروف التاريخية التي تدعو القوى الحية في شعبنا للخروج من سكونها الى الحركة والفعل، لتدمير نظام التناحر والتوافق، وبناء نظام ديموقراطي حقيقي جديد.

القوى الحية هي ههنا، أمامنا، تتلطى تحت سقف الطائف حائرة، مترددة، مدارية، مسترضية... لا تجرؤ حتى على التداعي الى لقاء جدي، حول مشروع جدي، تاريخي...

ألم نتعلم بعد من تجارب الماضي ان مقاومة اسرائيل ومقاومة النظام الفاسد معركة واحدة!؟
وأبشع ما في صورة الزمن الحاضر، وأوفى ما فيها تعبيرا عن هذا الزواغ الرهيب، منظر قوى عقائدية ثورية أنشئت أصلا لغرض سحق نظام التناحر والتوافق: منظر معيب يؤلف زاوية وضيعة من صورة هذا الزمان الرديء.