بات واضحا أن الدبلوماسية الفرنسية معطلة أو مرتبكة، فالخلافات في وجهات النظر بين القصر الجمهوري ووزارة الخارجية تزداد حول الملفات الساخنة، هذه الملفات التي تتمحور حول الشرق الأوسط، وبالأحرى الملفات التي تشكل هما مشتركا بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، والواضح أيضا هو اتساع الهوة بين القصر الجمهوري ووزارة الخارجية، الأمر الذي يحرم فرنسا من أي فعل في هذه الملفات المصيرية في هذه المرحلة الدقيقة لمستقبل العالم، فالمسألة ليست عادية في التاريخ السياسي الفرنسي حيث لم توقف مواسم الانتخابات الرئاسية فعالية الدبلوماسية الفرنسية كما توقفها اليوم، وليس للمراقب سوى أن يتساءل عن السبب الكامن وراء هذه الظاهرة. ولمصلحة من هذا التعطيل المتعمد للحراك الفرنسي، وفي هذا الظرف بالذات.

الجواب ليس سهلا وليس معقدا عندما نعلم أن السياسة الخارجية لفرنسا لا تشكل سوى عشرة بالمائة فقط من عوامل التأثير في خيارات الناخب أي أن أي مسؤول فرنسي طامح للرئاسة لن يخسر في أصوات الناخبين أو يربح نتيجة مواقفه من السياسة الخارجية لذا لا يمكن تبرير ذلك بالتحديات الانتخابية إلا بشكل محدود جدا.

إذا المسألة تتعدى النزاع الانتخابي إلى ما عداه من مشروع سياسي استراتيجي للتغيير الجذري في فرنسا. والواضح جدا أن الفريق المناوئ للرئيس شيراك اختار القطيعة مع الديغولية السياسية لصالح ما يمكن تسميته بالأطلسية السياسية خاصة بعد أن تراكمت تصريحات هذا الفريق التي تصب بالتوجهات الأمريكية والأطلسية وبعد أن تحددت معالم تشكيلته من الشخصيات السياسية المعروفة بولائها لحلف شمال الأطلسي والسياسة الأمريكية في أوروبا والعالم.
ويبدو واضحا أن التأثيرات السياسية لنجاح هذا الفريق تتعدى الشرق الأوسط لتصل إلى المسار الأوروبي ولون أوروبا القادم والعلاقات الأوروبية – الأوروبية حيث أن السياسة الخارجية لأوروبا لمبعد كسياسة موحدة وهي سياسة بلا هوية حتى الآن.

لذا فالإنتخابات الرئاسية الفرنسية لهذا العام ليست مسألة داخلية فقط، بل هي مسألة إستراتيجية بامتياز ولا يمكن التعامل معها كشأن داخلي نظرا لتداعياتها على ملفات مصيرية على مستوى العالم ككل والشرق الأوسط وأفريقيا على وجه الخصوص.

فالمحافظون الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية يعتبرونها كذلك ويعتبرون أن هزيمتهم داخل الولايات المتحدة التي باتت واضحة ليست نهاية الطريق طالما أن لهم رأس جسر في أوروبا يستطيعون العبور إليه وخسارتهم لقيادة الولايات المتحدة وماكينتها السياسية والعسكرية يجب تعويضها بماكينة وآلية أخرى هي العالم القديم وهو أمر طالما راهنوا عليه خلال السنوات العشر الماضية من خلال علاقاتهم بالقياديين الأوروبيين الجدد وببعض العناصر الشابة في الشرق الأوسط وأفريقيا السوداء ونجحوا حتى الآن بإغراء هؤلاء، ولبنان مثلا.

نجاح الفريق اليميني المناوئ للرئيس شيراك في فرنسا، بغض النظر، عن سبب صعوده، يشكل رافعة حقيقية لمشروع المحافظين الجدد، وبالتأكيد فإن أخطاء الرئيس الفرنسي خلال السنوات الثلاث الأخيرة شكلت الأرضية الأساسية لهذا الصعود يبدو واضحا أن أحصنة المحافظين الجدد وخلاياهم النائمة في أوروبا والشرق الأوسط دفعت الرئيس شيراك لهذه الأخطاء، ولا نستثني بعض اللبنانيين من هذه العملية سواء علموا بأنهم بيادق فيها أم لا، فلسنا الآن بمعرض محاكمة بل أننا نصف مشهدا وحالة. فماذا يعني دعم فريق 14 شباط اللبناني للمرشح نيكولا ساركوزي ودعوة اللبنانيين في فرنسا للقاء مع ساركوزي متناسين دعم الرئيس شيراك لهذا الفريق طيلة عامين ونصف وتبنيه مواقفهم. فعلى ما يبدو أنه تجاه هؤلاء المحافظين الجدد اللبنانيين انتهى دور شيراك وطويت الصفحة.
قد يتساءل البعض عن سيناريوهات ما بعد شيراك في فرنسا في حال نجح فريق المحافظين الجدد التغييرين والثوريين في أوروبا. الأمر يبدو واضحا من خلال استعراض تاريخي لمواقف هؤلاء المتضامن دائما وبلا تحفظ مع السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي عموما وخاصة في لبنان وفلسطين والعراق وسوريا وإيران وكذلك في شمال أفريقيا وأفريقيا السوداء والقرن الأفريقي. وهذا الفريق لا يخفي تبنيه للسياسة الإسرائيلية أيضا بخلاف المبادئ التي قامت عليها السياسة الخارجية الفرنسية.

وهذا الأمر سينعكس على السياسة الأوروبية العامة ففرنسا في السابق كانت تشكل ثقلا مناوئا لهيمنة السياسة الأمريكية عليها سواء عبر حلفائها وعبر الدول الجديدة التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي أو عبر سيطرة حلف شمال الأطلسي على القرار العسكري والأمني في أوروبا الغربية وفرنسا كانت تواجه هذا الوضع عبر تحالف غير معلن مع دول الجنوب الأوروبي. والدول الأخرى التي لم تتجاوب مع سياسة المحافظين الجدد كروسيا والصين. مع وصول هذا الفريق إلى السلطة في فرنسا سينهار هذا التوازن في أوروبا ويصبح من المستحيل وقف الجموح في العلاقات الدولية وستنضم فرنسا إلى المحور الأمريكي حيث يجب أن لا ننسى أن السيد ساركوزي فضل أن تكون أول زيارة له كمرشح رئاسي لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير و أول زيارة له كرئيس للحزب الديغولي هي للرئيس جورج بوش ولإسرائيل.

وفي الوضع الجيوسياسي الجديد في أوروبا فإن فريق المعتدلين الأوروبيين سينحصر بعدد قليل من الدول الأوروبية من دول الجنوب وبعض الدول الصغيرة التي ما زالت تعتمد مبادئ إنسانية في سياستها الخارجية.

في الشرق الأوسط لا تبدو الأمور عرضة لتغييرات مباشرة وفي زمن قريب فالسياسة الفرنسية الحالية والتي شكلت رافعة للولايات المتحدة فيه لن تتغير طالما أنها تسير في ركب الولايات المتحدة الأمريكية، لكن المشكلة ستبدو واضحة في زمن متوسط أي بعد انتهاء ولاية الرئيس بوش في الولايات المتحدة الأمريكية حيث ستحل باريس محل واشنطون في سياستها في المنطقة. وهنا تبرز خطورة تسلل فكر المحافظين الجدد إلى المنطقة وإلى العالم القديم رغم أن كل شيء سيتحدد في معركة لبنان وفلسطين. وطريقة إدارة الصراع المحلي والإقليمي.

ففي الوضع اللبناني يبدو واضحا ارتباط بعض الأطراف اللبنانية بمشروع المحافظين الجدد وبالتالي صعود هذه المجموعات المرتبة بهذا المشروع كما يحصل الآن حيث أن من الملفت جدا أن تكون القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع هي التي تسيطر على القرار داخل قوى 14 شباط وهي التي تتحكم بالقرار الأخير وتعطل أي اتفاق بين القوى المتصارعة في لبنان وهي المعروفة بتعاملها السابق مع إسرائيل، دون أن يظهر عكس ذلك حتى الآن، وعناصرها في الولايات المتحدة يقيمون أطيب العلاقات مع المحافظين الجدد وهم الذين جروا الشخصيات اللبنانية لمنح أحد صقور المحافظين الجدد في الولايات المتحدة وساما لا يعرف أحد سببا لهذا الوسام وهم الذين يحملون لواء المرشح اليميني المعادي لشيراك في فرنسا ويعملون ضمن حملته الانتخابية رغم أن شيراك يعتبر حليفا لحليفهم النائب سعد الحريري. وبنجاح هذا الفريق سيكون لفريق القوات اللبنانية اليد الطولى في الحياة السياسية في لبنان بدون شك. ولا يبدو أن لفريق النائب سعد الحريري أي حظوظ باستمرار فاعليته في الحياة السياسية. ولا شيء يجعلنا نعتقد أن السيد سمير جعجع سيقدم هدية للنائب سعد الحريري في حال وصل إلى السلطة، ولا شيء يحملنا على الاعتقاد أن التحالفات غير الطبيعية القائمة في لبنان حاليا خاصة تحالف ما يسمى قوى 14 شباط يمكنه أن يستمر إذا ما أريد تجنيب لبنان أن يصبح ألعوبة وإذا ما أريد أن يعود لبنان سيدا حرا مستقلا.