فشل الوحدويون العرب في انجاز طموحات جميلة ومحقة، يمكن الاشارة باختصار شديد الى أمرين: الطموح الاول يتعلق بالمقدرة على تحقيق دولة الوحدة، او حماية نواتها الاولى على أقل تقدير، والطموح الثاني يتمثل في تجديد الفكر القومي وتعميقه. لذلك اتسم نضالهم السياسي بسمتين، من حيث المبدأ، السمة الاولى تغييب الفكر النقدي عن تجاربهم، والثانية العجز عن انجاز ملامح أولية لاطار يوحد نضالهم ويجمع قدراتهم ويلملم قواهم وتنظيماتهم وأحزابهم السياسية على المستوى القومي او القطري باتجاه الحلم العربي الكبير.

بل يمكن القول وبكثير من الدقة والموضوعية ان السلطات الوحدوية التي حكمت باسم الفكر القومي العربي «نجحت» ـ بالمعنى السلبي ـ في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه القوى المعادية (الاستعمار والرجعية) نجاحا باهرا. فقد استطاعت هذه السلطات تكريس تجزئة الامة وحماية هذه التجزئة مباشرة او غير مباشر من جهة، ومن تهديد وحدة العديد من الكيانات العربية من جهة اخرى. فإذا كان الاستعمار قد نجح في تفتيت الأمة العربية، فإن بعض القوى الوحدوية «تابعت» العمل لاستكمال سياسة التعثر والتفكيك والتشظيء الامر الذي ولّد نتيجة لسياسة هذه القوى الوحدوية وسلوكياتها اتجاها سلبيا قويا في مواجهة فكرة الوحدة والتشكيك بمقولاتها. مما جعل الوحدة كفكرة اكثر انحسارا وتراجعا وتأزما.

تحضر هذه الصورة القائمة اليوم في ذكرى نجاح اول تجربة وحدوية عربية بين مصر وسوريا، وتلقي هذه الوضعية المأساوية بظلالها على واقع المجتمع العربي ومستقبل اقطاره. لدرجة يبدو فيها تذكر قيام الوحدة السورية المصرية وإحياء المناسبة مسألة خارج السياق السياسي السائد عربيا او المعتمد كيانيا. فالأوضاع التي نعيشها والمعاناة التي نحياها تسير بمنطق التفيت والانقسام وتبتعد عن المنطق الذي ولّد الوحدة العربيةفي 22 شباط من العام .1958 فما هي مسؤوليتنا في ما وصلنا إليه؟ وكيف يمكن تجاوز الوضع المتردي؟ وهل يمكن حماية الكيانات القائمة بعد ان تمردنا عليها؟...

المسؤولية ذاتية

قد يكون من غير الموضوعية مقارنة المناخ الفكري والسياسي الذي نتجت في ظله أول تجربة وحدوية في التاريخ العربي الحديث بالوضع الراهن واختلالاته. غير انه بالمقابل من غير الموضوعية التسليم بمنطق غالبية الوحدويين العرب والقوميين عامة، بأنهم ضحايا التآمر الاستعماري من الخارج والعداء الرجعي في الداخل. وبالتالي فإنهم غير مسؤولين مبدئيا، عما وصلنا اليه من مآس وويلات وضياع. بحجة ان المؤامرة أكبر منهم والظروف عاندتهم فأفشلت طموحاتهم وحاصرت مشاريعهم. وكأنه في هذا الادعاء لم يكن لممارساتهم وتوجهاتهم اي دور في تفريغ فكرة الوحدة من مضمونها، او كأنه لم يكن لسياساتهم ومواقفهم ومغامراتهم اي اثر في محاصرة الفكرة العربية وضرب مقوماتها وخلخلة أسسها وتشويه صورتها.

ان تحميل الوحدويين العرب عامة والتنظيمات الوحدوية ـ القومية خاصة مسؤولية مباشرة في هذا المجال لا يقلل من أمرين او يلغيهما. الامر الاول صدقية مشاعرهم الوحدوية وقوة انتماءاتهم القومية وحسن نواياهم وعظمة تضحياتهم. غير ان صحة هذه المسألة استخدمت في الاتجاه غير الدقيق والصحيح. فعمد البعض منهم الى الغاء فكرة المحاسبة وتجميد مقولة المراجعة النقدية. والمسألتان (المراجعة والمحاسبة) غائبتان عن الحياة السياسية العربية والحزبية من حيث المبدأ، والأمر الثاني حقيقة الاخطار القائمة وعمق تأثيرها وجسامة التآمر الداخلي والخارجي على الوحدة وفكرتها وتنظيماتها من اجل اجهاضها وتيئيس الناس منها ومن امكانية انجازها. وهذا الامر كان ولم يزل حاضرا في السياسة اليومية والاستراتيجية لهذه القوى. غير ان ردود الوحدويين لم تكن بالمستوى المطلوب مما ساهم في عزل الفكرة وجعلها تدور حول نفسها. عزلها بمعنى تحولت الدعوة للوحدة الى ما يشبه التعويذة لشفاء المجتمع العربي من امراضه، والدوران حول نفسها بمعنى عدم التجسد في السلوك السياسي للاحزاب والتشكيلات والأنظمة القومية، الامر الذي أثر سلبا على الدعوة وشكك بصدقية أبنائها.

في هذا المجال، على أقل تقدير، تكمن مسؤولية الوحدويين العرب وأطرهم التنظيمية. فقد غالى هؤلاء في رفع شعارات وحدوية دون ان يربطوها بالواقع الموضوعي والممارسة الحية. فغدت الفكرة مسألة ذهنية غير عملية، وخيالية غير وضعية ومثالية غير واقعية... وقد عزز هذا الوضع طبيعة الثقافة الشفوية السائدة من جهة، وغياب البرامج السياسية من جهة اخرى، وهامشية المحاسبة من جهة ثالثة، ونمط التنشئة السياسية من جهة رابعة، وضحالة الفكر السياسي من جهة خامسة... لذلك هيمن منطق غوغائي يتلخص في الادعاء الشفوي دون السلوك العملي. فالوحدوي الجيد (فردا او حزبا) هو الأفصح في ترديد التعابير الوحدوية وحفظها، والأقدر على حبكها بمتانة لغوية وصياغتها بمصطلحات براقة جذابة ومتينة، الامر الذي جمّد الفكرة وهشمها.

غياب المشروع الوحدوي

من هنا ليس من الصعوبة عند مراجعة مسار الوحدويين العرب وأطرهم التنظيمية ملاحظة الحماسة وهامشية المردود، كثرة الخطابات وقلة الانجازات، صحة المواعظ وضحالة الفاعلية... مما جعل الفكرة الوحدوية اقرب الى «الطوطم» المقدس من السهل ابتلاعه عند الحاجة وتحويل من ابتلعه الى «مقدس» لا يمسه الباطل او يطاله. لذلك لم يزل غالبية الوحدويين العرب مسكونين بالحلم الجميل الا انهم غير قادرين على ملامسته في الحياة المعاشة. فغدوا بعيدين عن فكرتهم بالمعنى السياسي والمدلول العملاني.

هل يعني هذا التوصيف الوصول الى القول باستحالة فكرة الوحدة العربية ومواتها؟!... وهل يعني هذا بقاء تجربة الوحدة السورية المصرية التي تحققت في العام 1958 ومضة كغيرها من الومضات المشرقة في تاريخنا العربي نحنّ اليها شوقا وهياما ونعيشها حالة صوفية ـ ذهنية مجردة ونقف على أطلالها نمجدها ونمجد أبطالها؟...

ان الاجابة عن هذه الاسئلة ليست بالتأكيد في حدود هذه المداخلة وضمن امكاناتها. غير انه من الواضح جدا ان الوحدة التي حلم بها غالبية العرب وسعوا جاهدين لتحقيقها وقدموا في سبيلها الكثير الكثير من العرق والدم والتضحيات هي اليوم بعيدة المنال وأقرب في اللحظة الراهنة الى حلم جميل في فضاء معتم وأفق مسدود.

ان استفحال سياسة التشظي والتفتيت في الوطن الكبير وهيجان الانتماءات الاولية وتداعياتها الطائفية والمذهبية والعشائرية... لم تزل تتفشى في مسام الجسم العربي وتفتك في بنيته المجتمعية بسبب غياب المشروع النهضوي الوحدوي العربي. فعجز التنظيمات القومية كافة عن حماية افكارها وتجسيدها فسح في المجال لان يستوطن الوباء المذهبي والطائفي الواقع العربي ويخترق الافكار والعقليات والمواقف والسلوكيات.

من هنا ابتعدنا عن معنى الوحدة وأبعدنا فكرة الوحدة عن حياتنا. فغدا الوجود الوطني ـ الكياني مهددا بالغدر الذي تهددت فيه الروابط الجامعة بين اقطارنا العربية. مما جعل مخاطر التفتيت في هذه المرحلة تطال او تهدد العديد من الاقطار العربية والتفسخ يضرب النسيج المجتمعي للكيانات القائمة، الامر الذي يجعل الوحدويين عامة والوحدويين العرب بينهم خاصة، امام تحديات جديدة ويفرض عليهم المزيد من المراجعة والكثير من الجهد والتضحية للحد من موجة التصدعات التي تفتك بالاقطار ـ الكيانات بعد ان نجحت التجزئة في الاستقرار والثبات. فهل هم على هذا القدر من المسؤولية؟ وكيف؟

دعوة كيانية

يمكن القول ان احدى المهام القومية اليوم، ليست «تحقيق» الوحدة الكبرى، او جعلها في أولويات العمل (رغم أهميتها وضرورتها) بل قد يكون من اولويات العمل القومي حماية الكيانات القطرية من التصدع المجتمعي والتفتيت السياسي والتشظي الجغرافي.

لقد كانت النظرة القومية بشكل عام، تجاه الكيانات السياسية ملتبسة في أحسن الأحوال. فاعتقد الوحدويون العرب وبغالبية تنظيماتهم وأطرهم السياسية ان الحل الامثل هو في تجاوز هذه الكيانات المصطنعة التي أوجدها الاستعمار، نحو الفسحة الاعمق والمجال الارحب والوجود الحقيقي المتمثل في الوحدة والوطن الاكبر، الأمر الذي جعل القوميين العرب، على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم السياسية والفكرية، غير قادرين على إقامة علاقة متوازنة بين القطري والقومي، او بين الكياني والوحدوي (اضافة الى اختلالات اخرى ليس المجال لذكرها) فأهمل الاول لحساب الثاني، وهُمش الاول لصالح الثاني. فإذا كانت هذه النظرة فيها بعض الرومنسية الفكرية او الحماسة القومية او البراءة السياسية، فإنها بعد هذه التجربة الطويلة والمعاناة القاسية لم تعد مقبولة لمواجهة تحديات اليوم.

ان نظرة الاستخفاف «بالكياني» دون تحقيــق انجــازات في المسار الوحـدوي، ورفض الدولة القطرية دون النجاح في بلورة نماذج سياسية متقدمة في الحياة القومية العربية ساهم في توليد ردات فعل سلبية على منطق الذكر الوحدوي ومقولاته القومية، وسهل تضخيم منطوق القطري ـ الكياني، الامر الذي يدفع القوميين عامة والعرب منهم خاصة، ومن موقع وحدوي، بالتفاعل مع هذه الحالات بعيدا عن المغالاة المعهودة عندهم وردات الفعل السلبية التي وسمت الكثير من تصرفاتهم. فبعد انقضاء تسع وخمسين سنة على قيام الوحدة المصرية السورية يمكن قراءة الواقع بطريقة اكثر موضوعية وأقل تجريدا.

قد يكون لهذه الدعوة مبرراتها ومسوغاتها لكنها مراجعة اولية للتجارب الوحدوية التي لم تُثمر الا مزيدا من الشرذمة والانقسام. ولعل من أول المبررات لهذه الفكرة هي ان الخطوة اليــوم وضمـن المسارات السياسية التي نشهدها في اكثر من قطر عربي تكمن في استكمال مشروع التفتيت الذي بدأ في بدايات القرن الماضي من خلال تحريك النعرات والانتماءات الاولية للإطباق على الوطن الاكبر وحماية الوجود الصهيوني. فهل يعني هذا الرأي ارتدادا عن فكرة الوحدة العربية ـ القومية؟ أم اعادة تصويب للمسار باتجاه الحلم الاكبر؟ انها فكرة من ضمن الاتجاه الوحدوي وتحد امام العروبيين...

مصادر
السفير (لبنان)