لم يكن الجانب السياسي لجولة رايس واضحا، فهي استطاعت جمع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهودا اولمرت ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في "قمة الضعفاء" حسب تعبير يديعوت أحرنوت، لكن قدرة الأطراف الثلاث على التعامل السياسي ظهرت مع التقلبات في المواقف التي سبقت اللقاء، واستمرت في الردود الباردة التي رأت أن النتائج السياسية تبدو بعيدة اليوم.
لكن رايس التي تخلت عن أي دبلوماسية تجاه الشرق الأوسط "القديم" لصالح استراتيجية "ابتكارية"، فإنها وفق المؤشرات استطاعت تحقيق نجاح في "قمة أمنية" جمعتها في قيادات الاستخبارات للدول "المعتدلة" في عمان، ورغم أن هذا الاجتماع المفاجئ والسريع لم يقدم مبررات لانعقاده، لكنه في المقابل يرسم "خارطة سياسية" في مواجهة "خارطة الطريق" التي اعتبرتها الدبلوماسية العربية منتهية منذ أقل من عام.

وتوضح جولة رايس أن الإدارة الأمريكية تعتمد على "الدبلوماسية المباشرة" بدلا من قراءة النتائج السياسية التي أدت إلى اتفاق مكة، حيث لا يمكن الفصل بين فشل قمة عباس – أولمرت والتوافق الفلسطيني على العودة إلى التعامل سياسيا مع الملفات الداخلية. فالإدارة الأمريكية لم تكن بعيدة عن اتفاق مكة، لكن مبرراتها تبدو مختلفة عن دول المنطقة:

  فالبنسة للإدارة الأمريكية يمكن اعتبار نجاح اتفاق مكة "ترجيح" للدور المعتدل، حيث سبق هذا الاتفاق محاولات جرت في بعض العواصم العربية، لكن إنجاز الاتفاق في السعودية يجدد دور الرياض في ملفات المنطقة. في المقابل فإن الأطراف الفلسطينية كانت تعتبر أن اتفاق مكة يشكل مقدمة لتأسيس سياسة عربية جادة خارج "المحاور التي برزت خلال العام الماضي.

  والإدارة الأمريكية التي أبدت اتفاق مكة تعاملت "مباشرة" مع نتائج الاتفاق لأنها معنية بناحية واحدة منه، بينما لا تنظر إلى هذا الاتفاق كحزمة واحدة بالنسبة للفلسطينيين، فهي لم تبد استعدادا لتهيئة ظروف سياسية أفضل يمكن عبرها الاستفادة من طبيعة الاتفاق الفلسطيني – الفلسطيني، بل سارعت عبر الاتفاق مع أولمرت للنظر إلى طرف واحد هو الرئيس عباس "كقناة اتصال" حسب تعبير الناطق باسم مكتب أولمرت.

  والإدارة الأمريكية أيضا اعادت وضع الملف الفلسطيني ضمن الأجندة الخاصة بها، فرايس هاجمت سورية من القدس واعتبرت لبنان "خط الدفاع الأول" للدول "المسؤولة" في مواجهة "الدول الفاشلة". وهي بالتالي أعادت المعادلة التي تحاول السياسة العربية الخروج منها وانهاء التصنيفات القسرية.

ولم يكن غريبا أن تجتمع رايس في عمان مع رؤوساء الأجهزة الأمنية في كل من الأردن ومصر والسعودية والإمارات، ففي غياب الحلول السياسية فإن "الإجراءات الأمنية" تبقى متوفرة على سياق معتقل "غوانتنامو" الذي اختصر طبيعة الحرب على الإرهاب إلى مطارادات أمنية و "سجن" دولي و "شريف" يحقق العدالة دون الحاجة إلى محام أو شهود وقضاة ومحلفون. فالحل الأمني كان حاضرا في كل أشكال السياسة الأمريكية على امتداد السنوات السبع الماضية.

عمليا فأن سياسة المحافظين الجدد تعاملت في الشرق الوسط وفي سياق امني واضح، عندما بدأت بقطع التعامل مع الأطراف التي تعتبرها "متطرفة"، وهذا الإجراء ينهي أي عمل سياسي لصالح الحل الأمني، وفي المقابل فإنها استبقت آخر جلسة لمجلس الأمن لبحث الموضوع العراقي وقامت بالخطوات الأولى لبداية الاحتلال، واستراتيجيتها في الحرب الاستباقية كسرت "العملية السياسية" على مختلف المسارات داخل الشرق الأوسط.

وإذا كانت رايس اليوم تعتمد على "الاجتماعات الأمنية" بعد فشل اللقاءات السياسية، فإنها في نفس الوقت تعطي للملامح السياسية أبعادها داخل أي إجراء أمني. فلقاء عمان حسب التصريحات التي توالت أثناءه وبعده هي لتفعيل "اتفاق مكة" وإنجاح "المصالحة الوطنية" وأخيرا التحرك على المستوى الدولي بخصوص المسائل السابقة. وربما من الصعب إيجاد نقاط التقاء بين "مدراء المخابرات" والغايات المعلنة للقاء عمان. وفي المقابل يمكن إيجاد رابطين لهذا الاجتماع مع التطورات السياسية:

الأول – اعتبار القرار السياسي في دول المنطقة مرهون بالواقع الأمني، وهو ما يبررعلى الأقل من حيث الشكل، ربط نجاج اتفاق مكة بلقاء عمان الأمني.

الثاني – تعميم التجربة الأمريكية في جعل "العالم أكثر أمنا" حسب تعبير الرئيس الأمريكي جورج بوش على مساحة الشرق الأوسط، وبشكل يساعد الحوار. وبالطبع فإن "ازدياد الأمن" بالمفهوم الأمريكي ارتبط مباشرة بمعتقل "غوانتنامو" وبالرحلات السرية التي نقلت "المخطوفين" باتجاه هذا المعتقل.

نتائج اجتماع عمان لن تظهر مباشرة، لأنها لا تحمل الكثير من التعبيرات السياسية، ولكن بلا شك فإن هذا الاجتماع سيقدم وبشكل سريع خارطة أمنية بمبررات سياسية، وذلك في مواجهة الفشل السياسي للعودة إلى "التسوية" بمفاهيمها التي ظهرت منذ عام 1990.

عن "الوطن" السورية باتفاق مع الكاتب

مصادر
سورية الغد (دمشق)