خلال الفترة السابقة كان تناول ظاهرة تزايد أعداد العراقيين الوافدين لسوريا يتم من وجهة نظر إنسانية واجتماعية، إذ إن التركيز كان يتم على الأسباب المباشرة لنزوح العائلات العراقية، كتلك التي تتعرض في العراق لاعتداءات طائفية، وأماكن إقامتها داخل الأراضي السورية وأوضاعها الاقتصادية.. الخ.
لكن وبعد الطفرة الكبيرة التي قفزتها أسعار العديد من المواد والسلع في السوق المحلية أخذ الحديث يتسع حول دخول العراقيين الوافدين لسوريا كعامل رئيسي في حدوث تلك الطفرة..
حديث اتسم على ألسنة المسؤولين أو الإعلاميين أو المواطنين العاديين بالعمومية والسطحية دونما تعمق أو تأكيد بالأرقام والتفاصيل..
ونحن هنا نتطرق لظاهرة تأثير نزوح العراقيين وتزايد أعدادهم في سوريا على الاقتصاد الوطني من مختلف الجوانب بالتحليل والرقم والإحصائية.. ونسأل ما هو الحل؟ هل نعيدهم لبلادهم التي ماتزال على فوهة حرب أهلية؟ أم نحافظ على الموجود ونقفل الحدود في وجه القادمين الجدد؟ وهل المواطن قادر على تحمل المزيد من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية في سبيل ذلك..؟!

العدد كبير:
تشير الإحصائيات الرسمية لعام 2005 إلى أن أعداد القادمين العراقيين إلى سوريا خلال ذلك العام وصل إلى 913 ألف قادم منهم 837 ألف قادم جاؤوا عبر البر و75 ألف عبر المنافذ الجوية، إلا أن اللافت في تلك الأرقام أن وزارة السياحة تعتقد أن 452.5 ألف عراقي كانوا سياحاً استخدموا منشآت مبيت غير الفنادق، والتي تقول الوزارة أيضاً إنها استقبلت ما يقارب من 258 ألف عراقي في مختلف الفنادق والتصنيفات.. ونتيجة الوضع الراهن في العراق فلا نعتقد أن من يأتي لسوريا سيغادرها بشكل مطول، أي أن العدد السابق حول أعداد القادمين العراقيين هو في الواقع عدد المقيمين أو على الأقل جزء كبير منهم يدخل في مفهوم الإقامة لا السياحة ولا الزيارة، لأنه إذا أخذنا بتقديرات وزارة السياحة فإن هناك ما يقرب من 700 ألف عراقي في العام2005 أتوا لسوريا بصفة سياح، وبالتالي هم بالتأكيد غادروها ولم يبق إلا ما يقارب 300 ألف عراقي فقط لم يأتوا كسياح..!!
ومن هنا.. فإذا ما تمت إضافة الأعداد الجديدة التي استقبلتها سوريا العام الماضي 2006 فالرقم سيكون كبيراً جداً، ويناقض الرقم الذي نشر على لسان وزير المالية على موقع الوزارة الإلكتروني (وهو الرقم الرسمي الوحيد المعلن حيال ذلك) وقال فيه خلال إجابة على سؤال أحد المواطنين حول ارتفاع أسعار العقارات إنه (يوجد اليوم في سوريا حوالي مليون مواطن عراقي نازح بسبب ظروف العراق، مما شكل طلباً كبيراً على العقارات..)، وهذا ما أكدته أيضاً بعض التسريبات الإعلامية التي قالت إن العدد يقدر بنحو 1.3 مليون مواطن عراقي موجودين في سوريا تبعاً لمصادر في الهجرة والجوازات، وهو رقم بنظر الكثيرين منطقي وواقعي لا يتضمن مبالغة مضخمة ولا نقصاً غير مقنع..
عموماً يشكل التزايد السكاني لأي بلد مشكلة اقتصادية وتنموية واجتماعية تسعى الكثير من الدول لمواجهتها، سواء كان ذلك التزايد السكاني نتيجة ارتفاع عدد أفراد الأسرة داخل البلد أو بسبب الهجرة الأجنبية تحت حجج متنوعة كالعمل والسياحة والهروب من الحروب، ونتيجة الاهتمام الرسمي في سوريا بالسياسة السكانية خلال السنوات السابقة فقد انخفض التزايد السكاني من 2.75% إلى نحو 2.45% والجهود مستمرة لتحقيق مزيد من الانخفاض وصولاً إلى تحقيق توازن بين معدل النمو للناتج المحلي الإجمالي ونمو التزايد السكاني.

وتتمثل المشكلة الاقتصادية للتزايد السكاني بانخفاض حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي تدني المعدل الوسطي لحصته من الدخل الوطني سنوياً، الضغط على وسائل المعيشة، ارتفاع عدد العاطلين عن العمل وتزايد المشكلات الاجتماعية المصاحبة لها، ارتفاع فاتورة الإنفاق على التعليم والصحة وباقي الخدمات الأساسية الأخرى، وما قد يرافق ذلك من انخفاض في جودة تلك الخدمات.. الخ.

ومع ارتفاع نسبة السكان في سوريا خلال عام واحد بنحو 7% كما قال عبد الله الدردري نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية فإن البلاد ستواجه ضغطاً كبيراً في المشكلات، وهذا ما ظهر لاحقاً في ارتفاع أسعار العقارات والمواد والسلع الأساسية، فيما كان هناك ضغط من نوع آخر غير ظاهر للمواطن وتدركه الحكومة يوماً بيوم..

مستويات الوافدين:

يمكننا تصنيف الوافدين العراقيين لسوريا في عدة خانات تبعاً لمعايير متعلقة بالوضع الاقتصادي والهدف من الإقامة في سوريا والتقيد بالنظام ورؤية كل عائلة للمستقبل:

 الفئة الأولى وتضم العراقيين والعائلات العراقية الوافدة لسوريا والمنتمية لشريحة اقتصادية ذات إمكانيات مالية عالية أو جيدة، وجاءت إلى سوريا بعد غزو العراق انطلاقاً من هدفين الأول الهروب من حرب العصابات الدائرة هناك والتي تستهدف العائلات الغنية لابتزازها وسرقتها، والهدف الثاني أن البعض وبحكم أعماله الاقتصادية وتجارته جاء لسوريا ليتابع أنشطته التجارية والصناعية متنقلاً بين سوريا والعراق تبعاً للظروف الأمنية السائدة ولحاجة العمل، وكلا الشريحتين توجهت نحو شراء سيارات وعقارات في مناطق مختلفة من سوريا خاصة الراقية منها، والإنفاق بسخاء على حياتها هنا، وهذا ما تسبب لاحقاً وفي موازاة تزامنه مع عوامل في ارتفاع أسعار العقارات بشكل كبير وأسعار بعض الخدمات الأخرى.

  الفئة الثانية وتتمثل في العائلات العراقية ذات المستوى المعيشي المتوسط والضعيف والتي هربت جراء أعمال العنف والقتال الطائفي، وكثير منها جاء خلال العام الماضي 2006، وهذه العائلات بعضها يملك مدخرات متوسطة أو لديه أقارب في الخارج يعتاش على تحويلاتهم، أي أنه توجه ليعيش بالاعتماد على مرافق ووسائل المعيشية التي يعتمد عليها المواطن السوري ذو الدخل المحدود والسلع والمواد التي يتلقى فيها دعماً من الدولة، وهو ذات الأمر بالنسبة للشريحة الأخرى التي هربت من العراق مصطحبة معها سوء الأحوال المعيشية والفقر، والتي بدأ تشكل ضغطاً من نوع آخر يستهدف فرص العمل المتاحة وبميزة تنافسية كبيرة سعر أقل ومستوى تعليمي أعلى أحياناً.. وفي مواقع كثيرة التزاحم يتم على أعمال غير إنتاجية ولا تشكل قيمة مضافة إنما تدخل في نطاق الخدمات الهامشية..

وهنا يوضح الدكتور محمد جميل عمر أستاذ القوى العاملة في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق أن (العمالة الوافدة على غاية كبيرة من الأهمية والخطورة في آن واحد، فإذا كانت هجرة القوى العاملة والوافدة منها خصوصاً تتسم بشكل منظم وبهدف إشباع احتياجات فروع الاقتصاد الوطني وقطاعاته من الأيدي العاملة التي تفتقر إليها فإن هذه الهجرة تكون ذات نتائج إيجابية ومفيدة، أما إذا كانت العمالة الوافدة هي من الأيدي العاملة غير المؤهلة أي التي لا يفتقر لها الاقتصاد الوطني فإنها تشكل ضرراً كبيراً للاقتصاد الوطني، إذ أنها تتوجه للعمل في قطاعات غير إنتاجية ومن جهة أخرى تشكل ضغطاً على مستوى المعيشة ونزيفاً مادياً..).

الشريحة الثالثة وتضم العائلات العراقية والعراقيين الذين أتوا إلى سوريا قبل غزو العراق سواء قبل عودة العلاقات بين البلدين الاقتصادية ثم السياسية خلال حكم الرئيس الراحل صدام حسين أو بعد ذلك، وهم كغيرهم من المقيمين العرب أصبحوا في ثنايا المجتمع السوري ولا يمكن تميزهم نتيجة مرور الزمن وفترة إقامتهم..

التأثيرات والردود:

نأتي على تأثيرات العراقيين الوافدين لسوريا على الاقتصاد السوري، وهنا تُطرح وجهتا نظر..

الأولى: ويفضل أصحابها النظر من النافذة الإيجابية خاصة في ظل القوة الشرائية التي تمتلكها هذه الشريحة والسعي لاستغلالها، ويؤيدها الدكتور حسين القاضي وزير الصناعة الأسبق، حيث ينظر لموضوع العراقيين على أنهم (بالدرجة ضيوف البلد وسوريا معروف عنها أن قلبها كبير يتسع لكل العرب، وأركز في هذا الموضوع على الجانب الإيجابي فيفترض أن يكون لهم دور أكثر إيجابية، إذ أنهم عبارة ناس مقيمين ومستهلكين لسلع وخدمات ومساكن، وهذا المجال الاستهلاكي له إيجابيات، فالشراء يكبر الطلب على قطاع السكن مثلاً مما يعني تحريض قطاع السكن والمقاولات على البناء من جديد، وبالتالي خلق مزيد من النشاط والحيوية، لكن لو كانت لدينا منظمات الأعمال والسوق الاقتصادية لدينا وخاصة في المجال المالي والشركات المساهمة كان يمكن لهؤلاء المساهمة بتأسيس شركات وتفعيل بعض القطاعات لتكون قطاعات إنتاجية وليس استهلاكية..) وتعقيباً على موضوع أزمة الأسعار ودور الوافدين فيها فرد القاضي: (لا أعتقد أن المقيمين لعبوا دوراً رئيسياً في ذلك وفي إحداث التضخم ودون أن نغفل أو ننكر أنه قد يكون لهم دور ما، إنما مسألة التضخم لها ظروف وعوامل كثيرة أهمها العلاقة بين الأجور والأسعار، زيادات الرواتب المقصود فيها إنصاف الطبقات المحرومة دون مرافقة ذلك زيادة في الإنتاج.. الخ.

وأوضح أن تأثير الوافدين في أسعار السلع الاستهلاكية يحدث بلا شك، إنما السلع الاستهلاكية في سوريا غير مدعومة من الدولة، بمعنى أن التأثير على النظام الاقتصادي بشكل عام لا يتم إلا من خلال المواد المدعومة..).

فيما تقول وجهة النظر الأخرى: إن وجود هؤلاء بمثل هذا العدد من شأنه تشكيل ضغط كبير على جوانب مختلفة من الاقتصاد الوطني، ويستشهد أصحاب هذه الوجهة بالارتفاع المحموم الذي وصلت إليه أسعار العقارات والتي تجاوزت نسب غير مسبوقة، وبأسعار المواد الغذائية والخضار التي حلقت هي الأخرى خلال الفترة الماضية بشكل غير عادي، ففي ظل محدودية الإنتاج نتيجة ظروف مختلفة وتزايد الاستهلاك بنسب عالية جداً أحدث فجوة كبيرة أثرت على أصحاب الدخل المحدود في المجتمع السوري، واستفادت منها شريحة ما برحنا نسميها بالمستغلة والجشعة، هذا إضافة إلى المزاحمة التي أخذ المواطن السوري الباحث عن عمل يلقاها من الوافد الجديد وفي مختلف المهن والمجالات.

تقدر وزارة النفط حجم الدعم الذي يقدمه جراء استهلاك الوافدين لمادة المازوت فقط بنحو 12 مليار ليرة سورية، فيما تشير إحصائياتها إلى ارتفاع إجمالي الغاز المنزلي المباع من 770 ألف طن خطط له بداية العام الماضي إلى 810 ألف طن نفذ فعلاً مع نهاية العام الماضي بنسبة تنفيذ تصل لنحو 105% وهو ما يعني ارتفاع فاتورة الدعم الحكومي مع زيادة الاستهلاك المحلي والذي يتضح في جانب آخر حيث تؤكد إحصائيات الشركة العامة للمطاحن أن العام الماضي شكل زيادة في استهلاك الدقيق التمويني والدقيق الأبيض غير التمويني، إذ يقدر زيادة استهلاك الدقيق التمويني المدعوم من الدولة بنحو 70-80 ألف طن سنوياً والسبب زيادة أعداد الوافدين.. وهو ذات الأمر في باقي الخدمات التي تدعمها الدولة كاستهلاك المياه والكهرباء ووسائل المواصلات والاستفادة من خدمات المستشفيات العامة ومن التعليم الذي دخل مدارسه الرسمية العام الماضي ما يقارب 34 ألف طالب عراقي.. الخ.

والحل؟

إذا هناك تأثير واضح على مرافق الاقتصاد الوطني، جزء منها يلمسه المواطن بشكل مباشر ويعاني منه، وجزء أخر يتأثر منه إنما بشكل غير مباشر ولا تراه إلا الدولة.. فما العمل إذا؟!

إلى جانب الدور المفترض أن تنهض به الأمم المتحدة والدول التي سعت لنشر الديمقراطية الدموية في العراق والحكومة العراقية القائمة حالياً تجاه رعاية اللاجئين العراقيين في مختلف الدول وتأمين احتياجاتهم، يفترض إعادة النظر في التعامل مع الوافدين العراقيين تبعاً لأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، بحيث تنظم إقامتهم وطريقة استفادة فئاتهم من وسائل المعيشة خاصة السلع والمواد المدعومة لتجنب أية هزات أو تأثيرات مستقبلية يتعرض لها المواطن الذي ليس هو بغنى عن هزات جديدة.. ويكفيه ما فيه!!

هوامش
16 مشروعاً عراقياً في سوريا بعد الغزو الأمريكي:
عامان ونصف تقريباً هو العمر الزمني لخيار الاستثمارات العراقية بالتوجه نحو سوريا، حيث تشير المعلومات إلى أن أولى الطلبات المقدمة للحكومة من قبل المستثمرين العراقيين للحصول على موافقة بمشاريع اقتصادية تعود للعام 2004 واستمرت حتى النصف الأول من العام الحالي، لتبلغ بذلك قيمة تكاليف المشاريع الاستثمارية المشملة على قانون الاستثمار رقم 10 والعائدة لرجال أعمال عراقيين نحو 17.323 مليار ليرة سورية علما أن عدد هذه المشاريع يبلغ حوالي 16 مشروعاً تتوزع على مختلف الأنشطة الاقتصادية منها مشروعان لصناعة الأسمنت بقيمة إجمالية تصل لقرابة 7 مليارات ليرة وأخرى مشاريع نقل متنوعة وأخرى معنية بالشأن السياحي ومشاريع زراعية.
وهناك مشروع عراقي لبناني لإنتاج الألبان والأجبان بقيمة 46.6 مليون ليرة سورية ومركزه في ريف دمشق.
وتتوقع الأوساط الاقتصادية أن تشهد الفترة القادمة استقطاب المزيد من الاستثمارات العراقية التي يتوقع أن يتوجه بعضها للمنطقة الشرقية بحيث تؤمن حاجات السوق المحلية السورية وتكون على مسافة قريبة من السوق العراقية، وطالبت تلك الأوساط الحكومة بتقديم مشاريع متكاملة ذات جدوى اقتصادية متكاملة، والاهتمام بالمشاريع المشملة لبحث سبل تشجيع التنفيذ وتسريع إجراءات خروجها لحيز الواقع.

العراقيون أولاً بزوار اليوم الواحد:
الإحصائيات الصادرة عن وزارة السياحة تقول إن حركة قدوم اليوم الواحد من دول الجوار تأثرت بالأحداث الجارية في المنطقة حيث انخفض قدومهم خلال الربع الأول من 545 ألف زائر عام 2005 إلى 525 ألف زائر عام 2006، أي بنسبة انخفاض قدرها 4% ويعود سبب الانخفاض بسبب وزارة السياحة إلى انخفاض زوار اليوم الواحد القادمين من لبنان حيث كان انخفاضهم بنسبة 12%، إنما ازدياد عدد زوار اليوم الواحد من العراق بنسبة 36% أثر إجمالاً على العدد الإجمالي وبالتالي نسبة التغيير.