لا بد أن القارئ يعرف الطرائف العربية التي تبدأ وتنتهي بعبارة “قدامك حلين” من نوع: “إذا مت أمامك خياران: إما الجنة وإما النار: وإذا دخلت الجنة دخلتها، أما إذا دخلت النار فأمامك خياران...”. أمر شبيه يواجه القيادات السياسية للشعب الفلسطيني. كان أمامها خياران: الحرب الأهلية أو الوفاق. وقد اختارت الاتفاق والوفاق. وبعد أن اختارت الوفاق وجدت نفسها أمام مقتربين سياسيين، إما أن تتعامل كأنها مضطرة للوفاق ولكنها تشتهي العودة إلى الحضن الأمريكي، أو ترى بالوحدة تحت الاحتلال هدفا.

لقد كان اختيار موقع الاتفاق في مكة موفقا، لأن الولايات المتحدة بعد أن احتاجت حلفاءها التقليديين من جديد بعد التعثر في العراق باتت مضطرة أن تمنحهم هامش حركة ضيَّقه المحافظون الجدد في الإدارة، فكانت فضيحة الفشل المدوي في العراق، ثم الموقف العربي إبان حرب لبنان، والفشل “الإسرائيلي” الذي زاده حرجا. الولايات المتحدة بحاجة إلى استثمار موقف ومكانة المملكة العربية السعودية في صراع المحاور الحالي، ولذلك اكتفت بالتعبير عن موقف بارد ومتحفظ يصر على مطالبة الحكومة الفلسطينية أيا كانت تشكيلتها بقبول شروط الرباعية، ولكنه وغير هجومي على اتفاق مكة. وليتخيل القارئ ما سيكون عليه الموقف الأمريكي من الاتفاق لو عقدت رايته في دمشق. فهل هذا ما حرك الوفود نحو السعودية، ام نفس الدافع الذي يحرك بعض الصحافيين في مدائحهم المحرجة؟ ليس مهما. المهم أن الاتفاق وقع، وعلينا أن نبارك حقن الدماء الفلسطينية، وأن نتحسر في الوقت ذاته على ما سفك منها في الفترة المضيعة بين لقاءي دمشق والرياض. والولايات المتحدة تمنح حلفاءها مرونة فيما تعتبره علاقات عامة تحتاجها في القضية الفلسطينية، ولكنها تشدد وتتشدد عند الحديث عن الموقف السعودي في شؤون المواجهة ضد إيران، وأول ساحاته، بالنسبة لأمريكا لا بالنسبة لإيران، هو لبنان. ولذلك يتصلب الموقف الأمريكي على لسان أمريكا ومن باتوا فأصبحوا رجالها المباشرين في لبنان ضد مرونة سعودية ممكنة في هذا البلد.

ونجد بين الصحافيين المرافقين embedded journalists المنتشرين أكثر من مغنّي الأعراس في صيف بلادنا من قيّم اتفاق مكة كأنه إنجاز فردي للملك، لا أكثر ولا أقل. والعاهل السعودي نفسه لم يقل سوى “أننا استخرنا الله يومين... ثم دعوناهم فأتوا”، أما بعض “الإعلاميين” من جنسيات مختلفة فقد نظَّروا قبل وبعد القمة حتى لما لم يخطر بباله من مهمات تاريخية. وقد ناشده أحدهم متملقا بشكل محرج أن يستخدم كافة الوسائل للضغط على القيادات الفلسطينية كما يوصي أب متشدد أستاذ مدرسة متردداً أن يؤدب ابنه ولو احتاج للقسوة والضرب. ومن تملق العاهل السعودي إلى التعالي غير المبرر على الشعب الفلسطيني، فكيف يتعالى فجأة متملق؟ لا علاقة بين التملق الذليل والتواضع كما يبدو، فلاعق المؤخرات في سياق قد يصبح مغرورا متعاليا في سياق آخر.

والحقيقة أن اتفاق مكة هو نتاج هامش حرية أوسع للسعودية للتحرك إقليميا. مما منحها على لسان بعض من يسمون المعتدلين العرب حاليا لقب “الشقيقة الكبرى” بدل مصر. وهو نتاج إدارة أزمات أوصلت إلى نتيجة أن حركتي فتح وحماس خسرتا من الصدام، وأن نتائجه في غزة غير مضمونة، وان الشعب الفلسطيني قد رفض الاقتتال رفضا قاطعا، ولأنه ليس هنالك ما هو معروض ويبرر الاختلاف عليه جديا حتى بمنطق مؤيدي التسوية حتى الموت. واتفاق مكة هو نتاج وساطات عربية منفردة للأسف: مصرية وسورية وسعودية، توجتها الوساطة السعودية. وحبذا لو كانت فاتحة تعاون في سياقات أخرى. وقد قبلت كلمة احترام بدل التزام في مكة، أما بقية بنود الاتفاق فقد اتفق عليها عمليا في دمشق. ولا يجوز طبعا إنكار وزن المملكة العربية السعودية السياسي والمالي وهيبة المكان وغيرها.

المهم في الاتفاق هو ليس تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، بل منع الاقتتال. وهذا هدف أكثر من مهم، هذا هدف مصيري بحد ذاته في ظروف الاحتلال. أما بالنسبة للوحدة الوطنية الفلسطينية، فيلزمها أكثر من التوصل إلى اتفاق كتخريجة تجنب الاقتتال وتمكن من إقامة حكومة وحدة وطنية. يلزمها أولا تنفيذ الاتفاق، وثانيا، تحويله إلى حجر قاعدة انطلاق لمشروع وطني فلسطيني مشترك تقوم عليه السلطة وإعادة بناء منظمة التحرير...حتى لو لم تقبله “إسرائيل” وأمريكا.

فحتى لو قبلت “إسرائيل” وأمريكا حكومة وحدة فلسطينية بناء على قبول شروط الرباعية فإنها في المرحلة الراهنة لن تقترح ما يمكن للفلسطينيين قبوله، وهذا أيضا من عوامل التوصل إلى اتفاق. على ذمة الصحافة “الإسرائيلية” في اليوم التالي للقاء قال أولمرت للرئيس الفلسطيني في الجلسة الثلاثية: “أنت خنتني بعقد اتفاق مكة”، وربما يقصد باستخدام كلمة حادة مثل “خيانة”، إحالة إلى علاقة حب تطورت وعبرت عنها القبلة في الاجتماع في بيته، أجابه الرئيس الفلسطيني وأنت لم تعطني شيئا، ولم تنفذ شيئا من وعودك لي. لا شك أن “الريِّسة” رايس وجدت نفسها في وضع محرج كمتطفلة على مصارحة حميمة.

أما المنطق الذي يحاول إقناع “إسرائيل” وأمريكا حاليا بأن هذا أفضل ما كان بالإمكان التوصل إليه، ولينتظروا قليلا ربما سيكون ممكنا تحصيل شروط الرباعية من الحكومة، (الرئيس الفلسطيني على وجبة الغذاء للوفود بعد اللقاء الثلاثين حسب هآرتس 20 فبراير/شباط)، فهو ليس منطق بناء مشروع وحدة وطنية إذ إنه لا ينطلق من أن الوحدة الوطنية في ظروف الاحتلال هي هدف قائم بذاته.

إذا كانت النوايا سليمة فإن اتفاق مكة يقدم فرصة ذهبية لتسييس موقف حركة المقاومة الإسلامية حماس بمفهوم العلاقات الدولية من جهة، ولتثبيت ثوابت ممثلي حركة فتح التفاوضية من جهة أخرى، لكي لا تتآكل بمبدأ “الحركة بركة” في عملية تفاوض ضيعت غالبا الهدف من هذا كله.

يقوم هذا التقدير لإمكانية مشروع وحدة وطنية من اتفاق مكة على فرضية أنه بفعل الاحتراب الداخلي وردود الفعل عليه والضغط الشعبي والعربي حصل تغيير لدى القوى المتنافسة، انقلب مزاجها السياسي فعلا. ومن أجل هذا التغيير يلزم أن تتوافر حساسية وتأثر بالناس وباحتضانهم، أن تقع بعض القيادات في عشق الشرعية الشعبية. ولكن الخشية أن هنالك من لا يتأثر بموقف الناس واحتضانهم له، حتى لو كان محروما من هذا الاحتضان في الماضي. ويفضل عليه ألف مرة رضا أمريكا. وهذا النوع يعتبر نفسه لسبب ما عمليا جدا، ويقيم ألف درع واقية بينه وبين التأثر والانفعال، تماما مثلما يعتبر مدير فرع بنك نفسه عمليا ناجحاً إذا حمى نفسه من شعبية لدى الفقراء الراغبين بالحصول على قروض يعرف أنها لن تسد.

هذا الموقف يفتح مجالا لاستراتيجية موحدة تشمل إعادة بناء منظمة التحرير، كما تشمل وضع العرب أمام مسؤوليتهم بالنسبة لرفع الحصار وقرارات محكمة لاهاي التي توجهوا إليها جماعات ووحدانا،كجامعة وكدول منفردة ضد الجدار، وترويج مبادرة السلام العربية، وأخيرا اتفاق مكة، والتشديد على أوروبا وروسيا والشرق الأقصى. والتوقف عن التفاوض على شروط التفاوض، بمعنى أنه إذا كانت لدى “إسرائيل” مصلحة بالتفاوض فلتقدم اقتراحات. وإذا لم يكن لديها مصلحة فيجب العمل والبناء فلسطينيا وترتيب إيقاع المقاومة، والعمل دوليا ضد الأبارتهايد “الإسرائيلي” والجدار وغيرها، وشن حملة دولية لفرض مقاطعة على “إسرائيل” وغيرها من الحملات المضادة للحصار والممارسات “الإسرائيلية” الأخرى. وإذا كانت “إسرائيل” تريد تفاوضاً، فسيكون ذلك تعبيرا عن مصلحتها، وليس بسبب احترامها ومودتها للشعب الفلسطيني. وإذا لم ترغب “إسرائيل” بذلك “فلجهنم” كما يقال بالعامية.

يجب التوقف فورا عن محاولة توسل “إسرائيل” وإقناعها بالتفاوض، كأن مجرد إقناعها بذلك يستحق تنازلات فلسطينية، وكأن المصلحة بالتفاوض مصلحة فلسطينية، ونفدت كل الوسائل الأخرى.

إذا طبق الخيار الأول فأمام القيادة الفلسطينية خياران:

أ- الوحدة الوطنية التي تتضمن إدارة وبناء المجتمع الفلسطيني، وإعادة بناء منظمة التحرير، والمقاومة والعمل السياسي في الخارج، ووقف التفاوض على شروط التفاوض.

ب - لعبة جديدة للحكومة مع المفاوض الحالي تشبه لعبة ياسر عرفات مع الوفد الفلسطيني في مدريد، يسمح له بالتفاوض ولكنه يعرقل المفاوضات، لماذا؟ لكي يُعترَف به ويفاوض هو. ماذا كانت النتيجة في حينه؟ أصبح مجرد الاعتراف به جزءاً من المفاوضات، ويعتبر تنازلا “إسرائيليا” يقابل بحد ذاته بتنازلات، فيدفع الشعب الفلسطيني ثمن الاعتراف به قبل بدء المفاوضات. وقد كان “الإنجاز” الوحيد من الانتقال من صيغة مدريد إلى صيغة أوسلو هو الاعتراف “الإسرائيلي” بمنظمة التحرير، وهو نفس الاعتراف الذي قضى عليها وفككها وأفرغها من مضمونها. ونحن لا نصدق أن هذا السيناريو واقعي، وأن حماس في وارد أن تلعب مثل هذه اللعبة. فعرفات وقيادة الخارج عموما كانت قد تحولت فكريا منذ نهاية السبعينات نحو مطلب الاعتراف والمفاوضات، أما حماس فلا تطالب باعتراف “إسرائيلي”. وهي متهمة أن تمسكها بموقفها من الاعتراف ب”إسرائيل” والتفاوض هو عائق أمام السلام. وتوقعنا هذا وتوقع غيرنا له ما يبرره. وهذا التبرير وهذا التوقع العام هو عنصر ناظم ضابط لقوى المقاومة الفلسطينية.

أما تطبيق الخيار الثاني بعد اتفاق مكة فيتلخص باعتباره هدنة مؤقتة تشمل مشاركة في الوزارات، واعتبار موقف حماس السياسي تنازلا باتجاه صحيح يقبل تنازلات أخرى. هنا يقدر مؤيد التسوية الفلسطيني أن الاتفاق هو عملية احتواء لحماس، وأنه ما دامت حماس وافقت على المبدأ يبقى السعر فقط، وهو مسألة مساومة تدريجية تمر عبر انتقال من أزمة إلى أخرى من خلال الشراكة ذاتها. وبموازاة ذلك تفتح مفاوضات وقنوات تفاوضية توصل إلى أفكار حول الحل الدائم يلزمها مناقشات في الحكومة، أو إعادة بحث شروط الرباعية كمدخل لمفاوضات أخرى، وغير ذلك.

في حالة تبني الخيار الثاني سيكون أمام النخب السياسية الفلسطينية إمكانيتان:

الانتقال من أزمة إلى أخرى، وإقناع العالم أن يرفع الحصار ويتم التمويل بواسطة الرئاسة الفلسطينية، وأن تستغل المرحلة لتقوية الرئاسة والأجهزة الأمنية والعلاقة بينهما سياسيا، تحضيرا للانتخابات القادمة. لا يحصل تقدم سياسي ولا حرب أهلية فلسطينية، ومن ناحية أخرى يتم تقييد أيدي حماس في المقاومة ثم الادعاء أنها فقدت تميزها السياسي في حين ترد كافة التسهيلات والمساعدات والسياسات الحقيقية من جانب الرئاسة الفلسطينية الذي تعززه بعد الاتفاق وزارات مهمة. ولكن لا يتم تحقيق وحدة وطنية وبناء ومشروع وطني فعلي. وتجري عملية “صيانة” مستمرة لعملية التفاوض لكي لا يدفع الشعب الفلسطيني كله نحو المواجهة.

وهذا هو المنطق الذي بموجبه عقد الاجتماع الثلاثي في القدس. فبنظر أمريكا مقاطعة الرئاسة بعد اتفاق مكة تفشلها وتدفع بحركة فتح بقوة إلى أحضان حكومة الوحدة سياسيا أيضا. كما أنه لا ضرر ولا ضرار من إجراء مشاورات نظرية كما سماها أولمرت حول الحل الدائم يتقبل من خلالها الناس بالتعويد أفكارا معينة مثل التنازل “نظريا” عن حق العودة وعن القدس كعاصمة فلسطينية، وما دام التنازل نظريا فبالإمكان الحفاظ على حكومة وحدة وطنية تشمل مثل هذه الأفكار إلى أن تصبح شرعية بل عادية تماما.

العودة إلى هذه الحكومة المراوحة في مكانها من أزمة إلى أخرى بأفكار توتر الوضع من جديد، خاصة إذا فشلت بكسر الحصار. ومن ضمنها الضغط على الحكومة لقبول شروط الرباعية، وذلك بتخريجة من نوع أن حماس غير مضطرة لقبولها كفصيل بل الحكومة فقط، وغيرها من التخريجات. وهذه وصفة لعودة التوتر من جديد.

يجب رفع سقف التوقعات من حركة فتح، كما من حركة حماس لاستبعاد هذه الإمكانية الأخيرة. ونحن نعتقد أنه بغض النظر عن دوافع توقيع اتفاق مكة فكلما طال مذاق الوحدة الوطنية في الفم سيكون من الصعب التخلي عنها، ويمكن أن تفشل كافة السيناريوهات التي تعد لإفشالها، أو تعتبرها مرحلة إدارة أزمات يتم التسامح معها أمريكيا لغرض تحييد القضية الفلسطينية ونزع فتيلها في الصراع الإقليمي القادم والذي يتم التجهيز له. وشرط إفشال هذه المؤامرات أن تكون الوحدة الوطنية فاعلة سياسيا وأن تشمل عملية إعادة بناء منظمة التحرير، وأن تعود الأخيرة للعمل في الخارج وفي الشتات، وأن تحقق الوحدة إنجازات محسوسة على مستوى حياة الفلسطينيين.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)