منذ اسابيع والحركة الدبلوماسية نشطة على خط الرياض ­ طهران بصورة توحي بأن «المملكة» و«الجمهورية» الاسلامية تراجعان علاقاتهما بوتائر متسارعة في ظل الازمات المفتوحة والجبهات المشتعلة سياسياً وأمنياً في لبنان وفلسطين والعراق, وتصعيد الخطب ­ و كذلك الاستعدادات ­ الاميركية لمواجهة ايران. ما هي الدوافع التي تحمل الرياض وطهران على هذه المراجعة, قبل اسابيع معدودة من انعقاد القمة العربية الدورية, واين دمشق من هذا التلاقي والملفات والاستحقاقات المتصلة به على المستويين الاقليمي والدولي؟

ربع القرن الاخير كان حافلاً بالاحداث الكبيرة والتحولات السريعة في العالم العربي كما في ايران, وقد توالت على المنطقة احداث جسام اختلطت فيها مصالح اللاعبين الاقليميين بمصالح الكبار. حرب العراق ­ ايران €او حرب الخليج الاولى€ تواصلت على مدى ثماني سنين €1980 ­ 1988€, تلاها الغزو العراقي للكويت في العام 1990, فحرب الخليج الثانية التي انتهت الى تحرير الكويت وفرض حصار قاس على العراق, شارك فيه الاشقاء والاصدقاء, بدأ في العام 1991 وانتهى بسقوط بغداد في العام 2003. وقد شكلت احداث نيويورك €2001€ وغزو افغانستان تمهيداً للهجوم على صدام حسين ونظامه وصولا الى شنقه, في حقبة بالغة التوتر من تاريخ المنطقة.

العرب والايرانيون شاهدوا وشهدوا وبعضهم شارك في هذه الاحداث, وبالنسبة الى السعودية وايران كانت المشاركة مباشرة. فالمملكة العربية السعودية احتضنت القوات الاميركية في الخليج لفترة طويلة وساعدت على استعادة الكويت وعلى احتلال العراق, وايران التي عانت من حربها الطويلة مع صدام تعاني بعد تفكك الاتحاد السوفياتي من بروز دول جديدة بتحالفات جديدة على حدودها الشمالية في آسيا الوسطى, وهي لا تزال ساحة تنافس بين اميركا وروسيا, فضلاً عن الدول المشاطئة لبحر قزوين. لكن ايران ما بعد الخميني عرفت كيف تتعامل مع المحيط العربي بمرونة كافية, حتى بعد احتلالها الجزر الاماراتية الثلاث, كما عرفت كيف توظف المعطيات المستجدة في العراق كما في افغانستان من اجل تعزيز دورها الاقليمي, بعدما تخلصت ­ من دون ان تخوض اي حرب في البلدين ­ من خصمين لدودين هما «طالبان» ونظام البعث العراقي.

والسؤال: ما الذي يجمع بين السعودية وايران في سنوات ما بعد الخميني وما الذي يفرقهما في هذه المرحلة؟

في الاجابة يمكن التوقف عند مؤشرات التوافق والتوتر منذ نجاح «الثورة الاسلامية» في العام 1979 حتى وصول محمود احمدي نجاد الى الرئاسة. المرحلة الاولى التي بدأت عقب عودة الخميني الى ايران كانت مرحلة عداء بكل معنى الكلمة, فقد وقفت الرياض الى جانب بغداد طوال سنوات الحرب العراقية ­ الايرانية ودفعت غالياً جداً ثمن هذا الدعم. بعدها شكلت مواسم الحج الايرانية الى مكة قنابل موقوتة داخل العلاقات المتفجرة وشكلت احداث مكة في العام 1987 التي خرج خلالها الايرانيون بتظاهرات مؤيدة للثورة الاسلامية ذروة التعبير عن طبيعة الخصومة في ظل اتهام «الجمهورية الاسلامية» بالعمل على تصدير الثورة الى سائر دول الخليج.

بعد انتهاء حرب الخليج الثانية €1990 ­ 1991€ حدثت تطورات أخرجت العلاقات الثنائية من رحم الثمانينيات لتشكل بداية التسعينيات بداية مرحلة مختلفة. في تلك الفترة نجح الرئيس الايراني هاشمي رفسنجاني ومن بعده محمد خاتمي في تأسيس علاقات تواصل مع دول الجوار الخليجي بدءاً بالمملكة ودفعا بقوة في اتجاه تطبيع علاقات ايران بالعالم العربي, في موازاة انفتاحها على العالم الخارجي تحت شعار «حوار الحضارات». نتيجة هذا الانفتاح كانت درجة عالية من التعاون والتنسيق بين المملكة العربية السعودية وايران الدولة توجت باتفاقية أمنية في العام 2001 شكلت منعطفاً تاريخياً في العلاقات. لكن وصول محمود احمدي نجاد الى الرئاسة في العام 2006 أعاد التوتر الى العلاقات الايرانية ­ الخليجية €السعودية ضمناً€ كما أعاد الاجواء الى حقبة الثمانينيات وكأن مرحلة الخميني عادت تضغط على حقبتي رفسنجاني وخاتمي التي كانت مجرد فاصل زمني بارد في حقبة مشحونة بكل اسباب الخلاف. عزّز التوتر الجديد الدور الذي تلعبه ايران في سوريا ولبنان والعراق ولبنان, ومشروعها التسليحي المتعاظم الى جانب برنامجها النووي. وقد ظهرت ملامح التباعد السعودي ­ الايراني على فترات متلاحقة وتجسدت في خروج الدبلوماسية السعودية عن تقاليدها المعروفة بالتكتم والتستر وسياسة الكواليس في اندفاعه قوية لاعادة تشكيل خريطة الصراع في المنطقة.

الهجمة السعودية المضادة ترجمت على مرا حل الى مجموعة مواقف صريحة:

­ في الملف العراقي وجهت الرياض تحذيراً مباشراً الى طهران دعت فيه الى التخلي عما وصفته بـ«جهود ايرانية لنشر المذهب الشيعي في العالم العربي», وأردفت هذا التحذير باحتضان مؤتمر لجميع علماء السنة في العراق, وهي ترصد باهتمام بالغ انعكاسات تحرك الشيعة العراقيين على اوضاع الشيعة السعوديين.

­ بالنسبة الى قضية فلسطين وجهت المملكة رسالة قوية على لسان الملك عبد الله نفسه مفادها «ان قضية فلسطين قضية عربية ويفترض ان يحلها العرب وليس سواهم», وقد جاء «اتفاق مكة» بكل مضامينه السياسية والمالية يوم 7 شباط €فبراير€ الحالي ترجمة عملية لهذا التوجه لقطع الطريق على الاحتواء الايراني للحكومة الفلسطينية.

­ بالنسبة الى لبنان, ومن منطلق التسليم السعودي بأن للمعارضة اللبنانية مرجعية ايرانية, سعت السعودية ولا تزال لنزع فتيل الصراع المذهبي, بالتنسيق مع طهران, وتشكل رحلات علي لاريجاني الى الرياض ورحلات بندر بن سلطان الى طهران علامة فارقة في هذا التوجه.

­ ولا تخفي السعودية مخاوفها من البرنامج النووي الايراني, بالرغم من المساعي الرسمية الايرانية لطمأنة اهل الخليج, وهي لا تمانع في ان تملك ايران برنامجاً نووياً سلمياً لكنها تتخوف من احتمال «عسكرة» هذا المشروع على المدى المتوسط, مما يؤدي الى بروز ايران كقوة نووية اقليمية جديدة.

­ وتبقى العلاقات السعودية ­ الايرانية محكومة في مداها الاستراتيجي بطبيعة تطور العلاقات الاميركية ­ الايرانية التي قد تقود الى مجابهة واسعة. وفي هذه الحال سوف تجد الرياض نفسها منحازة, بارادتها او من خارج ارادتها, الى جانب واشنطن, تماماً كما حدث خلال حرب الخليج الثانية وخلال غزو العراق.

تقاطعات

سؤال آخر يفرض نفسه في الحديث عن الحوار السعودي ­ الايراني في المرحلة الاخيرة: اين يتقاطع هذا الحوار مع التحالف السوري ­ الايراني؟

سوريا التي وقفت الى جانب ايران خلال سني الحرب التي امتدت ثماني سنين متواصلة, هي نفسها سوريا التي تتلاقى مع ايران النجادية في مواجهة المشاريع الاميركية على امتداد المنطقة. ومن الواضح ان التطابق السوري ­ الايرني ليس كاملاً في العراق حيث انخرطت القوى الشيعية €في معظمها€ في العملية السياسية التي نشأت في ظل الاحتلال الاميركي, وان هذا التطابق ليس كاملاً في لبنان, في المرحلة الاخيرة على الاقل, لكن كل شيء يدل على ان دمشق وطهران تتلاقيان على مجموعة خيارات اساسية استراتيجية ابرزها:

­ التصدي للمشروع الاميركي في لبنان في مرحلة ما بعد الانسحاب السوري.

­ تعزيز دور المعارضة اللبنانية €الشيعية بصورة خاصة€ في مواقع القرار اللبناني.

­ الربط بين الأمن السوري والأمن الايراني في مواجهة المخططات الاميركية والاسرائيلية المشتركة, وتعتبر «مذكرة التعاون الدفاعي» التي وقعت بين البلدين في منتصف حزيران €يونيو€ 2006 اول تحالف من نوعه بين بلد عربي وايران.
­ تعزيز التعاون الاعلامي والاقتصادي بين البلدين من خلال مجموعة اتفاقيات تجارية وثقافية بين البلدين, على اساس تحصين «جبهة الممانعة» الممتدة من جنوب لبنان حتى ايران, وهي جبهة يطلق عليها العاهل الاردني والرئيس المصري تسمية «الهلال الشيعي».

بهذا المعنى يمكن القول ان ما يجمع بين الرياض وطهران اقل مما يفرقهما, وان ما يجمع بين دمشق وطهران اكثر بكثير مما يفرقهما, علماً ان العلاقات السورية ­ الايرانية هي العلاقات العربية الوحيدة التي انتقلت منذ انتصار «الثورة الايرانية» من علاقات تبادل مصالح الى تحالف استراتيجي حقيقي, وحرب تموز €يوليو€ 2006 برهنت ميدانياً عن عمق هذا التحالف.
بخلاف ذلك تبدي السعودية قلقاً حقيقيا حيال الدور الايراني المتزايد في المنطقة العربية خصوصاً داخل العراق, متلاقية في ذلك مع تخوفات واشنطن التي تتزايد في الفترة الاخيرة, والتي تتمثل في مجموعة تحديات عبّرت عنها «ورقة الرصد السياسي» الرقم 1198 التي أعدها اخيراً جيفري وايت €أحد باحثي معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى€ بعنوان «محاربة ايران في العراق». نقرأ في «الورقة» ان التحدي الايراني يتميز بستة أبعاد رئيسية داخل العراق:

­ البعد العسكري ويتمثل في تدفقات الاسلحة الايرانية الى العراق, كذلك قيام ايران بتدريب العناصر العراقية, وتقديم الاستثمارات العسكرية والاستخبارية للميليشيات المتحالفة معها, وايضاً يشير الباحث الى قوات «فيلق القدس» التابعة للحرس الثوري الاسلامي الايراني, والموجودة حالياً في العراق, وقيامها بالكثير من العمليات العسكرية والامنية السرية داخل العراق. كما يشير الباحث الى العلاقات والروابط الوثيقة التي تجمع قادة «فيلق القدس» بزعماء الميليشيات العراقية.

­ البعد السياسي: تحاول ايران السيطرة على الوضع السياسي الداخلي العراقي, عن طريق علاقتها وروابطها مع الاحزاب السياسية والميليشيات والجماعات الدينية الشيعية العراقية. ويقول الباحث: ان ايران استطاعت بنجاح ان تنسج شبكة نفوذ وسيطرة واسعة شديدة التعقيد وعالية الكفاية والفعالية داخل العراق, وهي لا تقدم الدعم للحركات والقوى الشيعية فقط, بل للحركات السنية المتطرفة التي تركز حصراً على محاربة القوات الاميركية والقوات المتحالفة معها.

­ البعد الاجتماعي: استطاعت ايران فرض نفوذها الاجتماعي الكامل في جنوب العراق, وذلك عن طريق شبكة الخدمات الاجتماعية الواسعة التي استطاعت بناءها, ويقول جيفري وايت: ان ايران تقدم المساعدات الطبية والعلاج وتبني المستشفيات والمراكز الصحية وتدعم الخدمات التعليمية والمؤسسات الدينية.

­ البعد الاقتصادي: لايران روابط اقتصادية قوية مع العراق, فهي تدعم الاسواق العراقية عامة واسواق جنوب العراق خصوصاً, بالسلع الايرانية, والتي اصبح معظم سكان العراق عموماً, وكل سكان جنوب العراق يعتمدون عليها بالكامل في حياتهم اليومية, وحالياً فان الاسواق في جنوب العراق قد تتوقف عن العمل وتصاب بالشلل الكامل اذا انقطعت عنها السلع الايرانية, وتشير احصاءات معاملات منطقة التجارة الحرة في البصرة الى سيطرة ايران على كامل معاملاتها التجارية. كذلك افتتحت البنوك الايرانية فروعاً لها في المدن العراقية, وبالذات في بغداد والبصرة. وتقوم طهران بتقديم المساعدات في عملية إعادة البناء والتعمير, كما يقوم رجال الاعمال الايرانيون بدور بارز في كل انحاء العراق, بما في ذلك المناطق الكردية الشمالية وعلى وجه الخصوص منطقة السليمانية.

­ البعد الدبلوماسي ويقول فيه جيفري وايت: الخطاب الدبلوماسي الايراني الرسمي يركز على التنديد بالوجود الاميركي في العراق, وعلى ضرورة مساعدة العراقيين, ويركز ايضاً على ضرورة صيانة استقلال ووحدة العراق, ولكن الباحث بعد ذلك يتحدث عن الاتصالات الدبلوماسية بين المسؤولين الايرانيين والزعماء العراقيين, ويقول: ان هناك علاقة دبلوماسية من نوع خاص تجري بشكل غير معلن بين زعماء الحركات السياسية والفصائل الشيعية العراقية مع الزعماء والدبلوماسيين الايرانيين, كذلك يتهم الباحث السفير الايراني في العراق حسان كاظمي قوي بأنه من أحد كبار ضباط فيلق القدس الايراني,
­ البعد الديني: بموجب الاتفاق بين العراق وايران فان هناك 1500 حاج ايراني يعبرون الحدود يومياً من ايران الى داخل العراق, ويبلغ اجمالي العدد السنوي للحجاج الايرانيين حوالى 547500 حاج في العام, وهي نسبة تمثل اكبر مجموعة من الاجانب الذين يدخلون العراق, ولهؤلاء الحجاج حضور رئيسي في المراكز والمدن الشيعية المقدسة مثل النجف وكربلاء. كذلك اصبحت ايران الدولة صاحبة النفوذ الرئيسي على الدوائر التعليمية الدينية الشيعية المنتشرة في العراق, وبناء على ذلك فان هذين العاملين اضافة الى الدعم الايراني لرجال الدين الشيعة العراقيين اصبحت جميعاً تشكل تحدياً دينياً رئيسياً تصعب السيطرة عليه او تجاوزه.

وباختصار يقول وايت إن البيئة السياسية العراقية الحالية, وهي غير مستقرة, تمثل مناخاً ملائماً للميليشيات المتحالفة مع ايران كي تنفذ عملياتها العسكرية, والحدود العراقية ­ الايرانية البالغة 1424 كيلومتراً حدود تصعب السيطرة عليها, والاصرار الايراني على القيام بعمل سري طويل في العراق, من اجل تشكيل وصياغة المستقبل في ايران والمناطق المحيطة بها تعتبر رداً طبيعياً على الوجود الاميركي العسكري في المنطقة, كما تعبر عن رغبة في اضعاف القوة الاميركية واستنزافها ومنعها من تحقيق اهدافها كي لا تتفرغ للتدخل في الشأن الايراني.

مصادر
الكفاح العربي(لبنان)