ربما علينا أن نعيد كتابة مصطلح "البشاعة" الذ تحدثت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت عن السياسة الأمريكية وحرب العراق، فالمسألة لا تتعلق بالتصور الذهني للإدارة الأمريكية، فهذا الموضوع تكون بشكل تراكمي منذ انتهاء مبادئ ويلسون واعترافه بواقع الانتداب في منطقتنا، لكن "البشاعة" التي تحدثت عنها "أولبرايت" ترتبط بشكل سريع بلون الدولة الديمقراطية التي أوجدتها الإدارة الأمريكية في العراق... فالمسألة ليست أغلاطا مرتكبة، إنما انتهاء مساحة الحلم بالنسبة للمجتمعات، بعد أن تم تعويم مصطلح الديمقراطية على المساحة العراقية.

قبل حرب العراق كان العنوان الديمقراطي صورة لأشكال السياسة الدولية، ورغم أن الواقع في فلسطين كان يضغط على مجتمعاتنا ويخلق تناقضا بين "الصورة الديمقراطية" المطروحة دوليا، وآليات التعامل مع هذا العنوان، لكن الآلية الإعلامية كانت من القوة بحيث شكلت حافزا اجتماعيا عاما انتهى لصالح التفكير التراثي مع بداية العمليات العسكرية الأمريكية في العراق.

عمليا فإن الصورة التي تركتها "العمليات الديمقراطية" تلاحقت خلال السنوات الماضية مشكلة مساحات من الغموض حول "ضرورات" الديمقراطية، وصولا إلى قناعات باتت واضحة، على المستوى الرسمي على الأقل، بأن "العمليات" الديمقراطية تفتت دولنا بدلا من منحها القوة.

فـ"البشاعة" التي تحدثت عنها أولبرايت هي في النهاية التصقت بـ"الدولة الديمقراطية" وكأنها خط أحمر يهدد أمن المجتمع، والبشاعة أيضا لم تعد صفة يمكن إلحاقها بالصورة الذهنية المتشكلة عن الولايات المتحدة، بل استطاعت أن تشوه طبيعة التفكير في المنطقة، لتعيد "الصراع" الاجتماعي على قواعد من "التناحر" و "التفتيت" لتصبح "الديمقراطية" رديف "الفوضى" أو الاقتسام المذهبي للدولة، أو حتى ظهور "الأحزاب التراثية" على حساب "العقلانية" التي ميزت مراحل الحداثة في تاريخنا المعاصر.

و "البشاعة" أيضا ارتدت داخليا على مجتمعاتنا في ظهور "الحمية" بدلا من الفعل المنظم، فمن يقرأ البيانات أو الأدبيات السياسية يشعر وكأنه في زمن "واقعة الجمل" أو "فتح عمورية"!!! فـ"الجهاد" دعوة مفتوحة للقتل ... وصورة "طالبان" أصبحت جزءا من الإعلام الفضائي يوجه للجمهور بشكل دائم.

في عصر "البشاعة" التي تحدثت عنه أولبرايت نعود للتشكيك بكل الزمن الذي دفعنا نحو "الحلم" الديمقراطي والوطني والحداثي... فالبشاعة التي خلفتها الإدارة الأمريكية ليست في عدد الشهداء العراقيين، أو المغتصبات العراقيات... إنها في طبيعة "التفكير الاجتماعي" الذي تذكر فجأة أن "الأعراض تغتصب" ونسي أن الاغتصاب طال عقولنا قبل أن يصل إلى "الأعراض".. وأن انتهاء الحداثة من العمل السياسي لم يجعل الديمقراطية فوضى فقط، بل أعاد رسمنا على مساحة القبائل والعشائر و "فورة الدم"... البشاعة الحقيقية هي في انتهاء حلمنا بدول بالمعنى الحداثي، وسياسة تنتمي لما بعد عصر النهضة بدلا من زمن العمائم واللحى....