بعد بضعة اشهر، وتحديداً في شهر تموز، تنتهي الولاية الاولى للرئيس السوري بشار الاسد، ليستفتي الشعب على ولاية رئاسية جديدة يعبر فيها عن التفافه حول قيادته ودعمه لمواقفها وسياساتها، ليفتتح الرئيس الاسد - كما هو متوقع - ولايته الثانية. لكن في ظل اوضاع داخلية واقليمية وحتى دولية تختلف اختلافا كبيراً عما افتتح به ولايته الاولى عام 2000.
هذه التغيرات التي كان من المتوقع لها ان تساهم الى حد كبير في زعزعة استقرار نظام الاسد، يبدو تأثيرها لمصلحة تثبيته كلاعب رئيسي لا غنى عنه في استقرار المنطقة اكبر بكثير مما حلم به حتى اقرب المقربين منه.

تعرض بشار الاسد في السنوات السبع الماضية الى هزات كان اي منها كفيلا باطاحته خصوصا وانه تسلم ارثا معقداً مليئا بالملفات المؤجلة منذ امد بعيد، بالاضافة الى الاحداث التي غيرت مجرى السياسة الدولية بدءا بالحادي عشر من ايلول، ومرورا بسقوط بغداد، وانتهاء بتبعات اغتيال الرئيس رفيق الحريري التي لا تزال مفتوحة.

لكن الاسد الشاب الذي راهن كثيرون في الداخل والخارج على ان حداثة عهده بالسياسة ستقف حائلا دون قدرته على ادارة هذه الملفات، اثبت عكس هذه الرؤية.

على الصعيد الداخلي استطاع الاسد عبر بضعة قرارات ومراسيم التخلص مما سمي بقايا الحرس القديم واستبداله بآخر، دون ان يترك ذلك اي اثر على بنية النظام، فيما قام خلال فترة قياسية لم تتعد العام الواحد، باعادة لملمة الداخل الذي بدأ بعضه يتمادى، لتصل الرسالة سريعاً، فالنظام لا يزال قويا ولا شيء يتغير، وما "ربيع دمشق" الا"اضغاث احلام" لم تتطلب من القائمين على حفظ امن البلاد اكبر من بضعة اعتقالات لمن جنح بهم الخيال للحديث في مجالسهم الخاصة بأن "ايام النظام باتت معدودة". هذه الاضغاث التي تحولت لوهلة كوابيس في اعقاب احداث الحادي عشر من ايلول، وما تلاها من خروج المارد الاميركي للانتقام، ما لبثت هي الاخرى ان تلاشت بعد ان وجد النظام السوري في ارشيفاته الاستخبارية ما هو اكبر بكثير مما تحفل به ارشيفات وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية من معلومات عن الحركات الاصولية في كل ارجاء المعمورة، ليتجنب بها اي "طرطشة" نتيجة الانتقام المحتمل، بل على العكس ليُكافأ بشكر خاص على هذه المعلومات القيمة من أكثر من مسؤول اميركي وعلى رأسهم الرئيس جورج بوش.

لكن التعاون الأمني المذكور تبدد في لحظات بعد سقوط بغداد وإعلان أكثر من مسؤول اميركي وفي مقدمهم وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد بأن الهدف التالي سيكون دمشق التي ساندت نظام صدام حسين وأمنت للقيادة العراقية ملاذاً آمناً.
لكن تطورات الاحداث في العراق وانزلاقه نحو دوامة العنف من جهة، وانحناءة النظام السوري في وجه الاعصار بتنفيذ بعض مطالب الادارة الاميركية بتعزيز الحدود وبتسليم بعض المطلوبين وطرد آخرين من جهة أخرى، حالت دون تنفيذ التهديد الاميركي، ليخرج النظام السوري بعد بعض الوقت أهم لاعب على الساحة العراقية مع حليفه الاستراتيجي ايران.
وفي خضم الضغط الاميركي على النظام السوري في ما يتعلق بالملف العراقي، ووقف دعمه للمنظمات الارهابية في لبنان وفلسطين على حد التعبير الاميركي، اتُهمت سورية باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، لتخرج القوات السورية من لبنان تحت ضغط المجتمع الدولي، وفي فرنسا التي كانت من أكثر مؤيدي بشار الاسد، والسعودية ومصر اللتان لطالما شكلتا مع الرئيس الراحل حافظ الاسد حلفاً مهماً بعد حرب الخليج الثانية 1991. وليخرج لبنان تالياً عن نطاق السيطرة السورية للمرة الاولى منذ ثلاثين عاماً. وليوجه التحقيق الذي قاده المحقق الالماني ديتليف ميليس أصابع الاتهام الى النظام السوري، وهو ما أشاع من جديد مقولة المعارضة السورية بأن "أيام النظام باتت معدودة". ومرة أخرى لم يتطلب الداخل أكثر من بعض الاعتقالات على خلفية ما سمي "إعلان دمشق - بيروت" لاعادة الامور الى نصابها من جديد.

وإن تكن عاصفة التحقيق لم تنته بعد، والمحكمة الدولية تلوح في الأفق، الا أن النظام السوري الذي التقط انفاسه بتسلم المحقق الدولي الجديد سيرج براميرتس ملف الاغتيال الذي توسع ليشمل كل الاغتيالات، يدرك أن خياراته تزداد يوماً بعد يوم للاسباب الآتية:

 إدراكه استحالة التفكير الاميركي أو الاوروبي بالخيار العسكري ضد سوريا كونهم يرون في النظام السوري العلماني حاجزاً في وجه استيلاء الاسلاميين المتطرفين الاشد خطراً على السلطة.

 استطاعته اعادة رص صفوفه في لبنان عبر حشد مؤيديه وفي مقدمهم "حزب الله"، وبمعونة لم تكن في الحسبان من "التيار الوطني الحر" بقيادة ميشال عون، للوقوف في وجه "الاكثرية الوهمية" حسب تعبيرات المعارضة، وتراجع مشروع هذه الاكثرية بعد الاغتيالات المتوالية التي تعرض لها رموزهم.

 تسلم "حماس" مقاليد السلطة الفلسطينية بعد نجاحها المذهل في الانتخابات، وتحول خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة المقيم في دمشق الى قيادة لا تقل وزناً، لا بل تصارع في بعض الاحيان مكانة الرئيس الفلسطينية محمود عباس.
استفحال العنف في العراق وفشل كل الخطط الامنية والسياسية لمعالجته، الى درجة بات معها اشراك سوريا في الحل مطلبا اميركيا، وان يكن ليس رسميا حتى اليوم، الا انه صدر عن لجنة شكلت بأمر من الرئيس الاميركي، والمقصود طبعا لجنة بايكر - هاميلتون. ويدرك النظام السوري ان المسألة لا تعدو كونها مسألة وقت قبل ان يطرق الاميركي بابهم طلبا للمساعدة.
وان كانت كل التطورات السابقة تثبت شيئاً، فانما تثبت فشل كل التوقعات والتحليلات التي راهنت على عدم قدرة نظام الرئيس بشار الاسد على اكمال ولايته الاولى، بدءا بتلك الصادرة عن مراكز الابحاث والدراسات الاسرائيلية وانتهاء
بتقارير "مجموعة الازمات الدولية". وهو ما يستوجب وقفة مراجعة مختلفة من قبل الجميع. فبنية النظام الذي ارساه الرئيس الراحل حافظ الاسد اقوى بكثير من أن يُستخف بها، كأن تتأثر بانقلاب نائب الرئيس او انتحار احد اهم اعمدته الامنية. والبحث اليوم لم يعد يتركز على ما اذا كان نظام الاسد الابن قادرا على البقاء، وانما على الطريقة الانجع للتعامل معه بعد أن ثبّت نفسه لاعبا رئيسيا في خضم كل ما يحيق به من اخطار.

ليس ثمة من شك بأن سوريا - بشار الاسد لا تزال في عين العاصفة، وليس من المبالغة، تشبيه اوضاع اليوم بأوضاع سوريا الخمسينات حين كانت تتجاذبها التحالفات والمحاور، لكن ثمة فارق مهم يمكن ان يفسر الى حد كبير نجاح الرئيس السوري في ولايته الاولى، يتمثل في اختلاف، او اختفاء، الشعب الذي سلمه الرئيس السوري شكري القوتلي للزعيم المصري جمال عبد الناصر عند توقيع اتفاق الوحدة بصفته شعبا يعتبر كل فرد فيه نفسه زعيما، وبنظام يدرك ان هذه بالتحديد احدى اهم نقاط قوته.
تعتبر ولاية الاسد الثاني الأولى، اذا ما قورنت بولاية الاسد الاول انجح بكثير، خصوصا ان الاسد الاول تطلب منه تثبيت حكمه ولايتين، فيما يخرج الثاني من ولايته الاولى مكللاً بالنصر على كل التحديات السابقة، طبعا هذا بالاضافة الى بعض التغييرات الداخلية، حيث بات لدى السوريين بعض مراكز للتسوق، كما بات بامكان زوار دمشق مشاهدة فندق الوليد بن طلال منتصبا وسط العاصمة وان يكن ما يحيط به من ابنية يعود الى عقود خلت. وقبل أن ننسى بالطبع فان "البورصة" على الطريق، وقانوني الاحزاب والمطبوعات لا يزالان قيد الدرس، والمواطن يشكر الله ويحمده، وميشال كيلو وعارف دليلة في السجن والشعب يتحضر للاستفتاء الثاني ولكن بدون اي احلام هذه المرة.

مصادر
النهار (لبنان)