داهمني إحساس كان مزيجاً من الدهشة والعجب وفيه بعض الاستغراب وأنا استمع إلى بعض ما قاله الناطق باسم حكومة سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود الفلسطينية القائمة.
مثار الدهشة ومدار العجب ومدعاة الاستغراب، أمور قد تأتت ثلاثتها من بعض ما جاء في ما قاله تعقيباً على بيان الرباعية الدولية بخصوص موقفها من "حكومة الوحدة الوطنية" الفلسطينية المزمع تشكيلها بعيد اتفاق مكة المعروف. ففي تعقيبه هذا قال السيد غازي حمد، وهنا نحن إزاء المدهش:

إن "الولايات المتحدة لا تحترم أصدقائها، ولا تحترم حرمة الدم الفلسطيني"... هو يقصد هنا أنها لا تحترم ما تطلق عليهم أدبيات واشنطن في الآونة الأخيرة "المعتدلين" العرب، والمقصود هنا هو الدول العربية ذات العلاقة التقليدية شبه التحالفية معها، أو ما يطلق عليه البعض مؤخراً "الرباعية العربية"، أي تحديداً، الأطراف العربية التي لم تألوا جهداً في مسعاها عبر هذه العلاقة لدفع ما تسمى "عملية السلام" قدماً. وكأنما الناطق باسم حكومة السلطة كان يتوقع منها، أي الولايات المتحدة، احتراماً لما يفترض أنهم أصدقائها، رغم أن مثل هذا لم يعتده تاريخها ولم يعرفه العالم عنها ذات يوم حتى لأقرب حلفائها، بدءاً بدروس علاقتها بحلفائها المحليين، سواء أكان هذا في الفيتنام، أو إيران الشاه، وحتى المميزين منهم في الاتحاد الأوروبي، والشواهد كثيرة في هذا المجال.

أما ما يتعلق بحرمة الدم الفلسطيني، فإن هذا المسفوح على مدار الساعة على أيدي الإسرائيليين يعد من تحصيل الحاصل أنه إنما يتم سفكه بسلاح وتمويل وتغطية أمريكية، الأمر الذي لا ينكره الأمريكان أنفسهم، ولا يجهله أحد في العالم، فكيف يمكن أن يؤمل ممن تلطخت يداه على هذا النحو بدم الفلسطينيين أن يلتفت إلى حرمة هذا الدم؟!

إذ من البداهة أن الولايات المتحدة ليست فصيلاً فلسطينياً يطالب باحترام حرمة دم شعبه التي يتهددها احتراب أهلي منشود إسرائيلياً وأمريكياً المعروف أنه قد تجاوز خطوطاً حمراً كانت افتراضية، وحال أو سيحول دون استفحاله اتفاق مكة، كما يأمل الفلسطينيون بعد توقيع الاتفاق، وإنما هي دولة ملتزمة حتى النخاع بدعم الاحتلال والتغطية على جرائمه كحليف تربطه بها علاقة عضوية، وتعمل ليل نهار لتصفية القضية الفلسطينية لصالح إسرائيلها. بل إن إباحة الدم الفلسطيني عبر الاحتراب الأهلي هو ما تؤشر عليه مرامي الحركة الأمريكية السياسية راهناً باعتباره ضمناً قد غدا هدفاً تصفوياً يؤدي إلى ما تسعى إليه.

أما ما قد يستوجب العجب، فهو حديثه عن " تغيير إيجابي طرأ على موقف الرباعية يمكن أن يفتح الباب أمام آفاق إيجابية للتعاون"! ونعجب هنا لأننا لا ندري أين هي تلك المواقف التي قد تؤشر على أي تغيير يمكن تسميته بإيجابي قد تعلق عليه الآمال بأن يؤدي بدوره إلى تعاون إيجابي منشود من قبل حكومة السلطة في مواقف الرباعية التي نجمت عن اجتماعها في ضيافة الألمان مؤخراً، اللّهم سوى اختلافات طفحت على السطح قبيل الاجتماع تعبر في مضمونها عن محاولات تمايز ما لم تصمد طويلاً أمام إصرار كونداليسا رايس على فرض موقف بلادها وإسقاطه على حصيلة ما توافقت عليه أطراف هذه الرباعية وأعلن في بيانها الختامي... رايس دجّنت رباعيتها في المحصلة... الأوروبيون غير المتفقين أصلاً على موقف موحد حول العلاقة مع "حكومة الوحدة الوطنية" الفلسطينية المزمع تشكيلها، تراجعوا، وكأنما لم يرحب البعض منهم باتفاق مكة سابقاً، والروس حاولوا فعلاً التمايز عن الآخرين، إذ عزف لافروف منفرداً في أول الأمر فطالب جاهداً برفع الحصار، فبدا وكأنما هو في هذه الحالة يغرد وحده خارج السرب، لكنه لم يلبث وأن انضم منصاعاً في النهاية لسرب الرباعية، الذي تقوده رايس، مكتفياً بالتحفظ... ربما هذا الذي كان من لافروف هو السبب الذي دفع واشنطن فيما بعد إلى إيفاد ستيفن هادلي إلى موسكو!

الرباعية إذن استجابت في اجتماعها الأخير لإملاءات رايس الصارمة فأصرت بالتالي على مواصلة محاصرة الشعب الفلسطيني حتى تعترف حكومة اتفاق مكة المنتظرة، إذا ما قيض لها أن تتشكل، بشروطها التليدة، وهي كما قررته في بيانها الأخير:

"نبذ العنف، الاعتراف بإسرائيل، والقبول بالاتفاقات والالتزامات السابقة، ومنها خطة خريطة الطريق، وتشجيع إحراز تقدم في هذا الاتجاه"...

إذن، الرباعية هنا تبتز الفلسطينيين مجدداً، أي أن تطمينات أبو مازن التي حملها معه إلى لندن وإشاراته المتكررة إلى محتوى رسالة التكليف التي تلامس في جوهرها ما ترمي إليه هذه الشروط، لم تجد فتيلاً، بمعنى أن الرباعية، وهي الولايات المتحدة أصلاً، والاتحاد الأوروبي ملحقاً، وشاهد الزور في هذه الحقبة من عمر العالم، أي الأمم المتحدة، مجمعةً على قهر الفلسطينيين... نسجل هنا إلى روسيا تحفظها، الذي ينم عن الفارق بين الرغبة والقدرة، وعليه لن تكون الصورة في قادم الأيام سوى مواصلة الضغط عبر مواصلة حصار سياسي ابتزازي لفرض الاشتراطات التي أشرنا إليها، وطبعاً يوازيه ويكمله مواصلة حصار اقتصادي رديف، قد يخففه الأوروبيون إلى حد ما، لكن هذا التخفيف يأتي في ذات السياق الابتزازي، أي عبر تقديم بعض الفتات للفلسطينيين، التي تقول منظمتي الفاو والبرنامج العالمي للغذاء أن نصفهم في الضفة والقطاع مهدد بالمجاعة، باقتصاره على ما قد يقدم من دعم عبر رئاسة السلطة وليس الحكومة، أو من خلال عدم التعامل مع الشق الحماسي منها!

الرباعية، رحبت بجهود رايس في الشرق الأوسط، وهنا نأتي إلى مدعاة الاستغراب فيما قاله الناطق باسم حكومة السلطة، لقد قال: أنه على الرباعية "أن تدرك أن إسرائيل هي التي تتنكر للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني"!
هذا الكلام يعني ببساطة أن قائله إنما يفترض أن الرباعية الدولية بأطرافها الأربعة النافذة قد تتخذ مواقفها وترسم سياساتها التي تعبر عنها هذه المواقف على ضوء ما تدركه من حقائق الصراع، وليس وفق مصالحها أولاً وعلاقاتها البينية أساساً. ثم من قال أن الولايات المتحدة ما كانت لتنحاز إلى حليفتها إسرائيل إلا لنقص موجود في إدراكها لما تتنكر له إسرائيلها من حقوق فلسطينية؟!

والأمر ذاته بالنسبة للاتحاد الأوروبي. وأيضاً حتى روسيا، ثم إن الأمين العام للأمم المتحدة الجديد الكوري الجنوبي ، لا بد له وأن اطلع، كما يفترض، على مئات القرارات الأممية المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي صدرت عن الهيئة الدولية وتنكرت لها إسرائيل، أو أبقتها حبراً على الورق، بدعم كامل ومستمر من الولايات المتحدة، هذه التي أبقت الفيتو أو حق النقد الذي تتمتع به كدولة عظمى سيفاً مسلطاً على رأس هذه الهيئة يحول بينها وبين الانتصار لمبادئها ومواثيقها والقانون الدولي.
المهم هو أن رايس فرضت موقفها على الرباعية بغض النظر عن من أدرك أو لم يدرك من أطرافها بعد هول الهولوكوست الذي يرتكبه الاسرائيليون بحق الفلسطينيين وطناً وبشراً، وهنا نأتي إلى مقدمات ذلك الذي فرضته، والتي بدأت من شعور الأمريكان بأن في اتفاق مكة، بما له أو عليه، بعض انتكاسة لديبلوماسيتهم، وعليه كانت جولة رايس في المنطقة التي سبقت توجهها إلى ألمانيا لتدجين الرباعية. سلفاً وإبان هذه الجولة، قالت رايس بوضوح، أنه لا دولة فلسطينية مهما كان شكلها أو لونها وحماس في السلطة، إذا لم تعترف صراحة بشروط الرباعية، هذه التي تم إشهارها مجدداً في اجتماعها فيما بعد، بمعنى أن لا تقدم مسموحاً به فيما يسمى ب"المسيرة السلمية" بدون حرب أهلية فلسطينية كنتيجة لهذه الشروط، لعلها لم تعد مرغوبة فحسب بل مطلوبة ضمناً... وعليه، قالها الأمريكان بالفصحى وبالقلم العريض، أو هم قرروا، أن اتفاق مكة الداعي إلى تشكيل "حكومة وحدة وطنية" تقطع الطريق على هذه الحرب الأهلية، هو خروج على "الإرادة الدولية"، أي هذه التي تعني الاسم الرمزي للإرادة الغربية!

ألم تطالب رايس الرباعية بدعم عباس في مواجهة حماس؟!

وقبلها، ألم تجتمع، وفق ما نقلته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، برباعية استخباراتية عربية لبحث مسألة "حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية"؟!!

وما دمنا بصدد المقدمات التي سبقت بيان الرباعية، فلا يمكن إلا الإشارة إلى اللقاء الثلاثي الذي كان بين رايس وعباس وأولمرت، والذي لم يتمخض، كما هو معروف، عن شيء سوى الاتفاق على لقاءات قادمة... وشهد تكراراً لشروط الرباعية ذاتها سلفاً قبل تكرارها من قبلها فيما بعد... قالها أولمرت وكررتها رايس، والأنكى أن أولمرت الذي أضاف لشروط الرباعية شرطاً جديداً هو "الإفراج الفوري عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط" قد قال، وفق المصادر الإسرائيلية، لأبي مازن "لقد خنتني باتفاقك مع حماس"!!!

إذن، من الخطأ توقع احترام لم يعتاده الأمريكان اتجاه أصدقائهم أو حتى حلفائهم، وكذا الأمر بالنسبة لاحترامهم غير المحتمل للدم الفلسطيني المسفوح، كما أنه من الوهم، الذي تبدده ولا تبرر الوقوع في براثنه تجارب الشعب الفلسطيني المريرة، تعليق الآمال على تغيير إيجابي في موقف الرباعية من محنة الشعب الفلسطيني، هذه التي تبتز الفلسطينيين وتحاول عبر تجويعهم أي إذلالهم وبالتالي قهرهم فرض الشروط الإسرائيلية عليهم، كما أنه من الغريب حقاً أن يعتقد أحد من الفلسطينيين والعرب أن الانحياز الرباعي للاشتراطات الإسرائيلية، ومن ثم محاولة فرضها على الفلسطينيين، مرده نقص في إدراك أطراف الرباعية لفظاعة ما يلحقه الاحتلال بهم، أو جهل بحقيقة تنكر إسرائيل منذ أن قامت لحقوقهم... إنها المصالح، أولاً... وثانياً، أوليست هذه الرباعية حالها تماماً مثله مثل حال الأمم المتحدة، تلك التي تحولت بعد انتهاء حقبة ثنائية القطبية، إلى أداة طوعى في يد الولايات المتحدة... بمعنى أن مهمتها الأمريكية المناطة بها هي فرض الإملاءات الإسرائيلية الأصل على الفلسطينيين والعرب.