الاتحاد / باتريك سيل

تعتقد قلة من مراقبي المشهد السياسي الدولي أن الولايات المتحدة بدأت بإعداد العدة لشن حرب على إيران. ولكن ما أعظم المخاطر، وما أكثر ردود الفعل إثارة للقلق والمخاوف، خاصة حين يصعب التكهن بالعواقب والتداعيات المحتملة لحرب كهذه. غير أن حدسي يقول لي، إن المزاج الحالي للكونجرس الأميركي، لن يسمح بتمرير خطوة كهذه، كما أنه يستبعد جداً تأييد أي دولة أجنبية لها، في ظل ما نرى من عداء دولي مستحكم للرئيس بوش. بل على نقيض ذلك تماماً، يكاد يجمع الرأي العالمي، على أن تسعى الولايات المتحدة لمنع إيران من تخصيب اليورانيوم بشتى الوسائل والسبل، فيما عدا شن الحرب عليها، وذلك بعزلها وإخضاعها للضغوط الدبلوماسية، وبفرض العقوبات عليها، وتجفيف الموارد المالية عنها، بغية خنق اقتصادها، وصولاً إلى حرمان صناعاتها النفطية من فرص الاستثمار والتكنولوجيا المتقدمة. وإلى جانب ذلك، فإنه يحق للولايات المتحدة أن تواصل تعزيزاتها العسكرية حول إيران، بهدف تهديدها وإخافتها، ولكن دون أن تبلغ تلك التعزيزات، حد شن الحرب الفعلية عليها.
تلك هي القناعة النظرية على الأقل. غير أن الخطر الجدي يكمن في اندلاع شرارة ما، غير مقصودة أو مدبرة، مثل حادثة ما، أو اشتباك وتبادل محدود لإطلاق النيران، في نقطة ما من تخوم هذه المواجهة المتصاعدة بين واشنطن وطهران. ومثلما حدث في كثير من الحروب السابقة، فإن من شأن شرارة صغيرة كهذه، أن تؤدي لاندلاع لهيب الحرب. وهذا الوضع المزعزع وغير المستقر، هو ما يثير مخاوف وقلق المجتمع الدولي.
ذلك أن أسباب التوتر الحاد والمزمن بين الجانبين، ظلت تراوح مكانها. فمن جانبها، تُصر إيران على تمسكها بتطوير تكنولوجيتها النووية السلمية، وفقاً لما نصّت عليه معاهدة حظر الانتشار النووي. وعليه فقد تجاهلت الموعد النهائي المضروب لها لوقف كافة أنشطة تخصيب اليورانيوم الجارية في منشآتها النووية، في الحادي عشر من شهر فبراير الحالي، مع العلم بأنه الموعد الذي حدده مجلس الأمن الدولي، بموجب قراره رقم 1737 الصادر في 23 ديسمبر المنصرم. تلك هي الوثيقة التي وصفها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، مستهزئاً بأنها لا تساوي أكثر من "قصاصة ورق ممزقة".
لكن وعلى رغم ذلك، فقد أكدت طهران مراراً، أنها لا تنوي مطلقاً بناء ترسانة أسلحة نووية. بل لقد عرضت توفير كل الضمانات اللازمة لعدم سعيها لتطبيق أي تكنولوجيا عسكرية نووية. وعليه فقد أعلنت استعدادها للدخول في مفاوضات بهذا الشأن مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وشركائها الدوليين. غير أن هذا هو ما لا تؤمن به واشنطن وتل أبيب وبعض الدول الأخرى. وفي نظر هذه الأخيرة، أن ذلك الوعد بالتعهد الإيراني المزعوم، ليس سوى كسب للمزيد من الوقت والقبول الدولي، حتى تتمكن من التحول إلى دولة على حافة السلاح النووي، إن لم تصبح قوة نووية في الوقت الراهن. وبعبارة أخرى، فهي تريد أن تصل بإتقانها للتكنولوجيا النووية، حداً يمكنها من التسلح النووي، في لمح البصر، متى ما اقتضت الضرورة المُلحة، على نحو ما فعلت اليابان من قبل.
يذكر أن إسرائيل على وجه الخصوص، تولت قيادة وتصعيد حملة قوية ضد إيران، صورت خلالها رئيسها أحمدي نجاد، بصورة "هتلر جديد"، بينما صورت اليهود على أنهم ضحايا "هولوكوست" عصري! غير أن القراءة الأدق للوضع الحالي، تلزم القول إن تل أبيب تبذل ما في وسعها في حملتها هذه، للدفاع عن احتكارها لحيازة السلاح النووي في المنطقة، على امتداد ما يزيد على الأربعة عقود. والحقيقة أيضاً أن حيازة إسرائيل السلاحين التقليدي والنووي على حد سواء، قد حررت يدها بالكامل لفعل ما تريد بجيرانها الإقليميين. ويقيناً فإنها لا تريد لهذه اليد الحرة الطليقة أن تُغل، باستحداث نمط جديد من توازن القوى الإقليمية، لو تمكنت طهران من تطوير ترسانتها النووية. وفي تلك الشرارة والحوادث العرضية غير المقصودة، ما يثير قلق المجتمع الدولي، لاسيما في ظل تحريض إسرائيل وأصدقائها للولايات المتحدة على شن حرب على إيران، بذات النهج الذي حدث في دق طبول الحرب على العراق. وبسبب تعاظم قلق الدول العربية المجاورة، إزاء تسلح إيران نووياً، مصحوباً بموجة الغضب التي أعقبت خطابية نجاد ونبرته الاستفزازية، فقد استيقظ المجتمع الدولي على حجم التداعيات والخطر، وها هو يشرع في اتخاذ خطوات تصحيحية للوضع برمته.
فقبل عدة أسابيع، اقترح الرئيس الفرنسي جاك شيراك، إرسال وفد رفيع المستوى لإيران، على أمل تهدئة الوضع والتعرف على حقيقة النوايا الإيرانية. وقد شجعت تلك الخطوة -كما يقول الدبلوماسيون الغربيون- الاتحاد الأوروبي على الدخول في محادثات مباشرة مع إيران، بهدف تهدئة الوضع أيضاً وفتح منفذ في الطريق الخطير المسدود، الذي وصلت إليه المواجهة بين واشنطن وطهران. وفي المنحى ذاته، يتوقع انضمام روسيا لهذه المحادثات، بحكم تأثيرها على إيران، من ناحية بنائها لأول محطة نووية إيرانية في بوشهر.
وفي المقابل، تحاول إيران الوصول إلى المجتمع الدولي والتحاور معه بأسلوبها ونهجها الخاص. ومن ذلك تأكيدها للمجتمع الدولي، على أن الكلمة النهائية الفاصلة فيما يتعلق بالقوات المسلحة ومسائل الحرب، ليست بيد الرئيس أحمدي نجاد، وإنما هي بيد خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية. وقد جاءت آخر هذه التأكيدات، على لسان "علي أكبر ولايتي"، المستشار الدبلوماسي للخميني، على امتداد العقد الماضي كله، ووزير الخارجية الإيرانية للسبع عشرة سنة الماضية. وليس ذلك فحسب، بل ذكّر "علي أكبر ولايتي"، المجتمع الدولي، بحقيقة أن المسؤول المباشر عن الملف النووي الإيراني، ليس هو الرئيس أحمدي نجاد، وإنما علي لاريجاني، رئيس مجلس الأمن الوطني الإيراني.
وحرصاً منه على تبديد مخاوف المجتمع الدولي من نوايا إيران النووية، اقترح "ولايتي" أن تتولى فرنسا إنشاء اتحاد دولي داخل الحدود الإيرانية، يتولى مهام تخصيب اليورانيوم تحت إدارة أوروبية، وبضمانات كاملة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية. جاء ذلك في لقاء أجرته معه صحيفة "لوموند" الفرنسية الصادرة في 22 فبراير الجاري.
وفي الوقت ذاته، دخلت إلى حلبة المحادثات المباشرة مع طهران هذه، دول مجلس التعاون الخليجي، استشعاراً منها لمخاطر اتساع دائرة التوتر الشيعي- السُّني، في منطقة الخليج بأسرها. وليس أمامنا سوى أن ننتظر لنرى ما إذا كانت ستفلح هذه التحركات والإجراءات في تهدئة الوضع، والتوصل إلى تسوية معقولة للأزمة الإيرانية. ومن الواجب أن يكون الهدف الآني والمُلح لهذه التحركات: التخفيف من حدة التوتر الدولي والإقليمي، ونزع فتيل المواجهة العسكرية.