أهملت كل الدراسات الشبابية التي كانت بحوزتي، وخرجت إلى الشارع في محاولة للإجابة عن سؤال يتعلق بشريحة سورية تشكل نسبة تتجاوز الـ60% من المجتمع، إنه سؤال عن واقعهم، وعن نظرتهم إلى حياتهم اليومية؟ وما تقييمهم لها؟ وأين يرون أنفسهم ضمن لوحات الواقع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعلمية والسياسية....الخ؟.
.. مع الشباب في الجامعة والعمل والحي كنت أعيد صياغة السؤال بطريقة جديدة: بادرني بعضهم بأسئلة اعتبروها ذات أهمية أكثر، مثل غياب تعريف الشاب في بلدنا، أو عن أي واقع تتحدث، وهل هناك تعريف واضح لواقعنا الذي نعيش؟
وكما عادة الشباب السوري حاول كل واحد ممن التقيت اختزال السؤال وشده إلى حيث يريد، فأحدهم يرى في الواقع السياسي الشطر الأهم، وهناك من أخذ السؤال إلى شقه الاقتصادي، وآخر إلى الاجتماعي، وهكذا دارت دوامة من المساجلات والخلافات حول أي الأقسام أهم. ولذلك أعدت صياغة الأفكار وانطلقت من جديد وفي جعبتي كل هذه الأسئلة على شكل أفكار أرميها بين الشباب فواحد يهملها وثاني يحملها محمل الجد وثالث يعتبرها لا معنى لها على مبدأ أننا تأقلمنا مع مشكلاتنا وواقعنا فما الداعي للحديث عنه وفتح جروحه المندملة.

أساس الحياة

ولكن لا بد من فتح هذه الجروح، وبداية كان الجانب الاقتصادي الذي اعتبره -أحد العاطلين عن العمل ممن قابلتهم في الشارع- الجانب الأهم، حيث يرى في البطالة سبباً رئيسياً وراء هجرة الشباب، فهو يرى فيها بوابة خلفية للهروب نحو الخلاص، أو ما يعتقد أنه الخلاص، ويعتقد أنه من واجبنا، في ظل شروط الواقع الاقتصادي الصعب، أن نعمل على تنمية قدراتنا وملكاتنا العلمية والنفسية عن طريق بناء مجتمع يعرف ما يريد وقادر على تطوير اقتصاده الذاتي، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن بأن الفقير لا يملك كتاباً، وبذلك لا يمكنه تنمية وعيه العلمي والثقافي ذلك أن القوة المالية الأساسية غير كافية، فمثلاً إذا أردت شراء كتاب وثمنه 500ل.س وأنا لا أملك هذا المال فماذا أفعل، وإن كنت أملك فأين أضعه؟.
ومن ناحية أخرى حمل أحد الشباب الجامعيين العاطل عن العمل أيضاً أصحاب القدرة المالية المحلية المسؤولية بأنهم مقصرون نحو المجتمع، فالدعم المالي للشباب مفقود وهناك حماس لا دعم له، ولا توجيه حقيقي ولا مؤسسات تعنى بهم بشكل منظم ومدروس، لدرجة أنه حتى إحصائيات البطالة الصادرة عن المنظمات والإدارات المعنية غير موحدة، فهيئة مكافحة البطالة ترى أن النسبة هي15% أما مجلس الوحدة العربية ومنظمة العمل العربية يرين أنها30% ومن هذه الأرقام نستطيع أن نقيم واقعنا الاقتصادي اليوم.

الفاسد المفسد

ومع انعكاسات الحالة الاقتصادية على الواقع الاجتماعي مشكلاً كما يرى أحد اليائسين من التغيير، وقد التقيته في المقهى، مجتمعاً مفسداً لنا قبل ولادتنا والجمود هو حال الجميع دون استثناء مترافقاً مع فقدان العمل الجماعي، وتكريس الهم الفردي لمواجهة عالم الكبار المسيطر بحثاً عن موضع قدم. فيستنفر أحد الحضور من المسنين كان جالساً على طاولة مجاورة، مهاجماً أو مدافعاً لا أدري متسائلاً بتهكم عما قدم الشباب؟ ليرد صديقنا اليائس وبطريقة كادت تخلو من أدب الحوار (لك شو قدمتولنا؟) قبل أن تسألونا، نضالكم، جبهاتكم، أم موروثاتكم الرجعية المتخلفة، نحن لا نملك المنابر كما كنتم وإن كان أحدنا سيئاً فهو لا يؤثر إلا على نفسه وينعكس عليه دون الآخرين، ولكن أنتم كنتم تملكون المنابر لذلك كان الأثر أكبر وأشنع، أما أنا أتكلم أمام كأس من الشاي لأنني لا أملك منبراً لأسمعكم ما أريد. ويندفع شاب أخر من الحضور متسائلا عن قدرة الشباب على قيادة المجتمع كما فعلت الأجيال السابقة أم أنه يبقى كلام أحلام وحكي الليل يمحوه النهار؟! متابعاً بأن مجتمعنا كسائر المجمعات لديه طبقة شبابية متنورة مثقفة ومتعلمة، ولكنها تشكل عدداً قليلاً والباقي هم الطبقة القابلة للتنوير التي يجب العمل عليها لتخرج من حالة الانتماءات الصغيرة كالعائلية والعشائرية والطائفية لبناء وعي قومي وانتماء للوطن الكبير.
ويرى أن البداية بإخراج هذه الغالبية من العشوائية وعدم النظام، مطالباً بوجود سلطة اجتماعية غير فاسدة مع شباب متحمس يعمل على إخراج المجتمع من مفاسده وتحصينه من الداخل بقوة أفراده المحصنين بالوعي الفكري والإرادة والعقل على اعتباره المشرع الأعلى وهو الرادع والسلطة الموجهة، ومولد الضمير الحي، ويقاطعه صديقنا اليائس بأن الأهم هو عدم الرضوخ تحت سلطة الكبار التي تعيق نمو الشباب الفكري وتحرره من العادات والتقاليد البالية كما هو حالنا اليوم، وبالمقابل الوقوف بوجه استيراد العادات الغربية السيئة دون غيرها وهي مفاهيم دخيلة على المجتمع، كالتعلق بالظاهر ونسيان الأصل لتصبح أمريكا (مثلاً) حلمي بدلاً من وطني.

الغائب المغيب
وفي هذا السياق حمل أحد طلاب الجامعة الجزء الأكبر من المسؤولية عن هذا الواقع إلى غياب المنابر المتخصصة بالشباب ويرى أن الشباب يضعون ذلك حجة بوجود بعض هذه المنابر غير المفيدة كواقع الإذاعات الشبابية متسائلاً: هل الشباب لم يشبع من الغناء بعد؟ أما المجلات، فهي لا تكتب إلا ما تريد وليس ما نريد ولا تبحث في ما يهمنا بل ما يهمهم.
ويعتقد أنه من واجب الصحافة أن تركز على دور الشباب في المدارس والجامعات وتغطية النشاطات التي يقومون بها، مفترضاً أن السؤال عن أسلوب الامتحانات (مثلاً) مفيد مستقبلاً بالنسبة لواضعي هذه الامتحانات والمناهج، كذلك عن الأسلوب الذي يفضله الشباب في الامتحان، أتمتة أو قديم؟.

السياسة أخيراً

أحد الصحافيين الشباب يعتقد أن الصحافة ساعدت إلى حد ما بالتحرر الجزئي من الخوف وعززت الشعور بالانتماء لدى الكثير من الشباب من خلال ترسيخها لحالة اللحمة الوطنية في حالة الضغوط الدولية والخارجية، معتبراً أنه من واجبنا الاستفادة من التنوع الحضاري والثقافي والعمل على تحقيق انطلاقة الذات لإيجاد الديمقراطية والقدرة على المشاركة، وبالمقابل يرى أحد طلاب التربية أن واقع القوى الشبابية على الصعيد السياسي ما تزال معطلة، منهكة، قلقة، غائبة عن ساحة الفعل اليومي، وهي لا تعبر إلا عن انفعالات وشحنات عاطفية دفعت ببعضنا إلى ساحة الحراك السياسي موسمياً، وهذا نتاج إشكالية في العلاقة بين الحركة السياسية والجيل الشاب، بالإضافة لانعدام الثقة بالأحزاب الموجودة.

واقع الشباب يتكلم عن ذاته، فالبعض ينتظر أمام مكتب الدور حالما بفرصة العمل، وآخر يسعى وراء الهجرة لمتابعة تحصيله العلمي، وآخر يرمي المشكلة على السياسة ويرى في ابتعاد الشباب عن مراكز التأثير والقرار السبب الخفي الكامن خلف مشكلاتهم وهمومهم.