أجرى جيش العدو الإسرائيلي مناورات واسعة النطاق في هضبة الجولان العربية السورية المحتلة، وهي مناورات رمت إلى تطبيق الدروس المستخلصة من الحرب الأخيرة ضدّ لبنان، كما قال وزير الحرب الصهيوني (21/2/2007) ويأتي هذا التصريح وتقام هذه المناورات في مرحلة أصبح فيها الإسرائيليون والأميركيون عاجزين عن التحكم بمسار العمليات الحربية وبأحجامها وبمدتها وبنتائجها، وهو ما يختلف جذرياً عن وضعهم في المراحل السابقة، حيث كانوا دائماً على يقين من إحراز النصر، وإن في تصريح الوزير الصهيوني إشارة واضحة إلى أنهم فشلوا في تحقيق أهدافهم في لبنان، غير أن الوزير الصهيوني لم يشر من قريب أو بعيد إلى فشلهم الكارثي الأعظم في العراق، حيث في الوقت نفسه صرّحت مادلين أولبرايت أن احتلال العراق سيسجّل على أنه أسوأ كارثة في التاريخ الأميركي! وبينما وزيرة الخارجية السابقة تقول هذا الكلام البالغ الدلالة، كان ديك تشيني نائب الرئيس بوش يقول:" لا يمكن لنا ولا لحلفائنا الموافقة على الانسحاب من العراق"! وإنه لمن الواضح الفارق في الاجتهاد بين تصريح أولبرايت وتصريح تشيني، فهي تقول أن احتلال العراق أسوأ كارثة في التاريخ الأميركي، وهو يقول أن الانسحاب من العراق أسوأ كارثة للولايات المتحدة وحلفائها!
* * *
ولكن، يتوجب علينا الانتباه إلى أن هذه المرحلة من مراحل الحرب المفتوحة ضدّ أمتنا وبلادنا لم تجعل فقط ظروف المعتدين أصعب وخسائرهم أكبر، بل هي بداهة جعلت أيضاً ظروفنا أصعب وتضحياتنا أعظم، وهذا أمر مفهوم، فعندما يتحقق قدر من التوازن الكافي في ميدان القتال بين المعتدي والمعتدى عليه تصبح الحرب أشد ضراوة وتدميراً، أي أن تحسّن ظروف وأداء المعتدى عليه يجلب له مزيداً من الدمار إلى حين، فهو يدفع ثمناً باهظاً لحضوره الإنساني ندّاً كفؤاً، أما في الاشتباكات غير المتكافئة فتكون خسائر المعتدى عليه أقلّ، لأنه يعامل كقطيع، ويأخذ المعتدي منه كل ما يريده، وأوله إنسانيته، بأقل الجهود والتكاليف، بينما تبقى الحرب مفتوحة على اللانهاية.

إنه لمن الواضح اليوم تماماً أن العدو الأميركي الصهيوني يستميت من أجل إعادة الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً: عدم التكافؤ والتوازن في الميدان، وانعدام الفعالية العقلانية وسيادة الانفعال الغرائزي في الأوساط المعتدى عليها، ولذلك نراه يستنفر كل اختراقاته في مجتمعاتنا كي يظهر موضوع الحرب مناطقياً أو عرقياً أو مذهبياً ..الخ!

* * *
وبما أن المناورات العسكرية الإسرائيلية جرت في هضبة الجولان العربية السورية المحتلة فينبغي أن لا تفوتنا ملاحظة المعنى التاريخي لاختيار المكان، إضافة إلى المعاني الأخرى المرحلية، ففي هذا العام 2007 تكون قد مضت أربعون سنة على احتلال هذه البقعة الغالية من بلادنا، وعلى تهجير أكثر من نصف مليون مواطن عربي سوري من سكانها يعيشون مؤقتاً في المحافظات السورية الأخرى، فقد احتل الجولان ودمّرت معظم مدنه وقراه في حرب العام 1967، وهي الحرب التي كانت، كما هو الحال دائماً، حرب الولايات المتحدة قبل أن تكون حرب الكيان الإسرائيلي، نشبت كفصل من فصول الحرب الشاملة المفتوحة ضدّ أمتنا وبلادنا على مدى القرون السابقة، وكدليل على ذلك نستحضر وثيقة فرنسية من الوثائق الأوروبية والأميركية التي لا تعدّ ولا تحصى، ففي 13 كانون الثاني/ يناير عام 1841، أي قبل 166 عاماً، طلبت الحكومة الفرنسية من سفيرها في لندن أن يلفت نظر بالمرستون إلى أن الطرق التجارية الممتدة بين البحر المتوسط والبحر الأحمر من جهة، والمتوسط والخليج العربي من جهة أخرى، ذات فوائد كبرى بالنسبة لأوروبا عموماً، وأنها تتمتع بحرية عملية وبنوع من الحياد، وبالتالي فإن وضعها (وضع المنطقة العربية) يمكن أن يكون موضوع تعاقد صريح يضمن الاستعمال الحرّ لهذه الطرق من قبل جميع الأمم الأوروبية دون فضل أو امتياز لأي منها! بالطبع كان جواب الوزير البريطاني مراوغاً وسلبياً، ولكن ليس هذا هو المهم، بل المهم هو نزعة تملّك بلادنا دون أخذنا بالاعتبار على الإطلاق، ومن ثم نزعة الحرب الشاملة المفتوحة ضدنا، التي ما زالت تتواصل حتى يومنا هذا!

* * *

ها هي الولايات المتحدة اليوم وقد حلت محل الأوروبيين في بلادنا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بالمنطق ذاته وبالأداء ذاته، سواء في ما يتعلق بتفرّدها وإقصاء حلفائها، كما كانت تفعل بريطانيا، أم في ما يتعلّق بإسقاطنا تماماً من اعتباراتها وحساباتها والتعامل معنا تعاملها مع كائنات أدنى! غير أن أوهامنا في تحقيق انتصارات سهلة، وفي تكافئنا كدول مع الدول الاستعمارية، ظلت عقوداً وعقوداً تحول دون رؤية هذه الحقائق التاريخية الثابتة، فكنا على سبيل المثال نرفض اعتبار الولايات المتحدة وحلفائها طرفاً ميدانياً مباشراً في الحروب الإسرائيلية ضدّنا، بل نلجأ إلى واشنطن كطرف يمكن أن يكون محايداً، فينصفنا ويساعدنا على استرداد بعض حقوقنا من الإسرائيليين! ليس هذا فحسب، بل أيضاً نجاهر ونفاخر بصداقتنا للأميركيين وحلفائهم، ونتمادى في تعاملنا معهم، إلى أن بلغ بعضنا اليوم حدّ العمل في ركابهم ضدّ بلاده وأمته!

لكننا الآن، كما أشرنا، في مرحلة مختلفة عما سبقها، بدأت منذ انتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين، حيث العدو لم يعد قادراً على التحكم بمسار العمليات الحربية، وبأحجامها، وبمدّتها، وبنتائجها، أي أنه لم يعد يستطيع ضمان انتصاره التام مسبقاً، وبالمقابل لم نعد نحن قابلين للهزيمة دائماً ومسبقاً كما كان يحدث في الماضي.