بلحظة انقلبت أحوال الطقس في دمشق, من دفء ربيعي يحمل روائح الصيف, إلى يوم شتائي مكفهر معكر المزاج. كان اليوم هو الأحد, الوقت عصراً, كنا تحت جسر فكتوريا ننتظر أن يتعطف علينا سائق تاكسي وينتشلنا من عصف المطر والريح وعجقة سير لا تطاق. في عز الاضطراب, رن الموبايل وجاءني صوت صديق هادئاً حزيناً. بادرته فوراً, سأتصل بك لاحقاً فأنا في وضع لا احسد عليه. أجاب لا أريد شيئاً, وإنما فقط أسـأل هل تعلمين أن جوزف سماحة توفي اليوم. تلقيت الخبر بالانفعال ذاته الذي تعودنا فيه على تلقي الأخبار المفجعة العاجلة, عبرت عن دهشة اعتيادية وترحمت عليه, وأغلقت الهاتف!! للوهــــلة الأولى, لم أشعر بأن هذا الخبر جاء من خارج سياق واقع سيئ بكل المعايير نغرق فـــيه حتى الأذنين. لم أسأل نفسي, كيف يموت صحـــفي بقامة جوزف سماحة, وإنما كيف يبقى حياً في هذا المستنقع؟! أعرف الجواب, كــان مقاتلاً قضى نحبه في معركة. نسيت نفسي مدة من الزمن؛ المطر يهطل مدراراً, أقرب إلى بكاء قلقٍ ينوس بين الغضب والحزن المفاجئ؛ السماء تبكي جوزف سماحة, هكذا تخيلت.

أستعيد اللحظات الأولى, لم أشعر بالحزن ولا بالكآبة ولا حتى بالخسارة ولا بشيء إطلاقاً, تلبستني مشاعر فريدة ببلادتها!! شككت بأن يكون جوزف سماحة الذي قيل انه توفي بسكتة قلبية هو ذاته الذي انتظر حتى ساعة متأخرة من الليل مقالته «خط أحمر» في جريدة «الأخبار», كي أعيد نشرها في الموقع الإلكتروني «الجمل», لأن الكثيرين من قرائه ينتظرونها كي يبدأوا نهارهم بها. شككت وبعض الشك بلاهة طارئة يفرضها توقف زمن أغبر يرزح بالنكبات. بعد ذلك, رسائل كثيرة وهواتف أصدقاء وزملاء, تنهال عليَّ من كل حدب وصوب, وكلها تتمنى تكذيب النبأ المفجع, أغلبهم مثلي لا يعرف سماحة شخصياً, ومنهم من لا يعمل بالإعلام والصحافة, أغلبهم قراء مواظبون إلى حد الإدمان على قراءة افتتاحياته, لما يمثله من حالة لبنانية خاصة, قد تكون أو ربما كانت الاستثناء اللبناني المستقل وبعنفوان عن تيارات وتجاذبات حفظت مكاناً للعقل وخطاً راسخاً للرجوع الدائم إلى الرشد, في ذروة هيجان الجريمة والزعرنة والجنون, عندما طلق الجميع المنطق وساروا في جنازة العلاقات السورية ­ اللبنانية, يقرعون طبول القطيعة, يتساببون ويتشاتمون.

وحده جوزف سماحه, كان الصوت المتزن, الأقوى والأقدر. وقف ضد الجموع الهائجة, محافظاً على هدوئه وثباته, مقاوماً حبر المال السياسي الملوث. كتب قناعاته بدقة وبنفس طويل وصبر أطول, كان الشجاعة بعينها. شرح إلى أي درك ستؤدي موجة التلاعب بالأوطان والبشر. في تلك الأثناء خالفه واختلف معه قادة الحملة الدعائية الموجهة ضد سوريا, التي استحوذت على الساحة, فبدا أن لبنان كل لبنان ضد سوريا كل سوريا, شعبها وجيشها وعمالها... متهمة بصبرها وبؤسها ودموعها... حتى النخاع. في تلك الأثناء بالذات, كان بلسماً طيب جروح شتائم غارت عميقاً في نفوس السوريين, بحرصه على قول كلمة الحق بصرامة وصراحة معانداً لوثات الكذب الأسود, لم يقف مع سوريا ولا ضدها, ولم يتورط في تلك الخندقة الضيقة. كان أكبر من ذلك بكثير, كان رجل الحقيقة. وقف على رابية وأطل على الجميع ليرى ما هو ابعد مما كنا نحن فيه, ضالعين ووالغين وحائرين.

شغفت بحب القراء له, وبمنطقه الحر المستقل الواعي الاستشرافي, كان منارة احتاج اليها ظلامنا الحالك, وضميراً لا بد من وجوده لقياس المسافات الشاسعة التي باتت تفصلنا عنه, ولتقدير حجم التضليل والضلال المبين. أحبه السوريون كما لم يحبوا كاتباً صحفياً عربياً يسارياً من هذا الزمان الأميركي, وافتقدوه حين غاب عن «السفير», وانتظروا أخباره بفارغ الصبر, وعثروا عليه في «الأخبار» وفرحوا بما حملته لهم من مقالات لرفاقه الذين آمنوا بنزاهته, ففرحوا بمقالات زياد الرحباني وإبراهيم الأمين, ليكون لهم موعد يومي مع صحيفة أصبحوا يتعطشون إليها, تؤمن بما يحبون أن يؤمنوا به, وتدلهم على الطريق. كانت «أخبار» سماحة, سفينة نوح في طوفان الطوائف, فكيف يصدقون أو نصدق أن القدر اتخذ قراراً من دون أثر رجعي, وأن جوزف صمت وبشكل نهائي؟ كيف لا يعزى ذلك إلى مؤامرة مدبرة أو جريمة اغتيال؟!

باغته الموت في عز النوم وسرقه منا, الموت غافله وأسكته, وربما كان الموت هو هذا الواقع الأحمق, الواقع القاتل الذي لا يطيق الحياة. في موت مفجع كهذا, يبدو حتى القدر متهماً, لن تثبت براءته. لِمَ نبرئه وهو لا يفتأ يتآمر علينا ويبتلينا بالجنون والمجانين المحليين والدوليين, ويستكثر علينا أمثال «جوزف سماحة»؟! وكأن قدر منطقتنا أن تتحول بالكامل إلى عصفورية بلا حدود, تحت وطأة التخاذل الرسمي والتطرف الفكري والتخندق الطائفي.

مصادر
الكفاح العربي(لبنان)