ما ان تطأ قدمك أرض مدينة جرمانا، جنوب العاصمة السورية دمشق حتى تنسى أو تضطر لتتناسى انك في سورية، فمنذ سقوط النظام في العراق عقب الغزو الأميركي في آذار (مارس) 2003 تحولت هذه المدينة «الودية» كما يصفها الساكنون الجدد الى مدينة عراقية مع نزوح آلاف العائلات العراقية هاربة من ويلات الحرب وتداعياتها ليصل عدد أفرادها في المدن السورية الى مليون نازح بحسب آخر إحصاءات مفوضية اللاجئين الدولية.

هذا اللجوء ليس في الغالب سفرة سياحية أو بقاءً موقتاً بل هو هجرة حتى إشعار آخر أو بالأحرى انتظارٌ للحصول على فرصة للسفر الى دولة ثالثة عبر التقدم بطلبات لجوء الى السفارات الأجنبية ولدى منظمة الأمم المتحدة أو الى ان يتحسن الوضع الأمني في العراق وهو امر بعيد المنال على الأقل في أذهان الذين تركوا ممتلكاتهم متوجهين الى سورية والأردن ومصر ولبنان والإمارات حفاظاً على أرواحهم.

يقول ابو حيدر وهو رب لعائلة شيعية من خمسة افراد «هجرت بيتي في حي الدورة ذات الغالبية السنية بسبب ما تعرضت له من مضايقات جماعة دينية متشددة» ويستدرك: «وصلت الى سورية مع عائلة أختي التي فرت من مدينة البصرة لأن زوجها سني هُدد بالقتل اذا لم يترك بيته للميليشيات الشيعية واستقررنا في حي السيدة زينب في شقة واحدة ثم افتتحت مطعماً لبيع المأكولات العراقية وها نحن نعيش هنا منذ أكثر من سنتين». ويضيف: «أتيت الى سورية من دون ان أخطط لما قد أفعله». وعن اللغط الذي دار خلال الأسابيع الأخيرة في شأن تنظيم إقامة العراقيين في سورية أكد «كنت على يقين بأن سورية التي استضافتنا لن تجبرنا على الخروج وهذا ما جرى فعلاً».

وكانت الحكومة السورية حددت قبل أيام شروط إقامة العراقيين مع التأكيد على عدم إبعاد أي عراقي إلا من «خالف التعليمات أو ارتكب جرماً».

وتُختصر القوانين الجديدة بمنح العراقي لدى وصوله الى الحدود السورية تأشيرة دخول لمدة شهر بدلاً من أسبوعين ثم تجدد الإقامة لثلاثة أشهر ويتوجب على العراقي الخروج أياماً وليس شهراً للحصول على إقامة جديدة مع استثناءات لعائلات الطلبة في المدارس والجامعات السورية والمتزوجين من سوريات أو العكس وكل من لديه إقامة دائمة.

أحياء عراقية مغلقة

وصل العراقيون الى سورية ومعهم ليس فقط ما يملكونه من مواد ونقود ومَصاغ بل ما يحملونه أيضاً من أنماط حياة بدأت تجتذب حتى السوريين.

فعلى سبيل المثال تحول «حي الورد» في جرمانا الى «حي الفلوجة» كونه يحتضن العائلات الفلوجية. وفي طرقات هذا الحي تطالعك المطاعم والمحال العراقية التي تقدم الأصناف العراقية الشهيرة «الباجة والدليمية والتشريب والقوزي والكبة والكباب والسمك المسكوف» وكلها تُقدِّم مع «الصمون العراقي (الخبز) والمقبلات وهي اللبن والتمر لتنتهي الوجبة بالجاي المهيل (الشاي)».

وفي شارع الرئيس الراحل حافظ الأسد (مدخل جرمانا) تنتشر مكاتب السفر ومتاجر الدراجات النارية والملابس والأحذية يديرها عراقيون. وتشير التقديرات غير الرسمية الى وجود مئة ألف عراقي في جرمانا وحدها.

يقول أحد العاملين في مطعم «نخيل العراق» «نحن نعمل منذ اشهر ولم نتعرض الى أي مضايقات بل العكس فان زبائننا باتوا من السوريين وحتى الصوماليين والسودانيين والفلسطينيين واللبنانيين والأجانب فضلاً عن العراقيين الذين تستضيفهم سورية». ويضيف: «تضم جرمانا حي الفلوجة وحي الاشوريين وحي الموصليين والبغداديين فضلاً عن النجفيين والبابليين والكلدان في مساكن برزا والسريان في معرّة وصيدنايا».

ولم تؤثر القطيعة بين الحكومتين العراقية والسورية خلال الفترة من 1980 الى 1997 كثيراً في العلاقات الاجتماعية بين الشعبين, هذا ما يشير إليه أبو علي وهو عراقي مقيم في دمشق, ويضيف: «الإجراءات الجديدة لإقامتنا بسورية جيدة ومن حق سورية فرز العراقيين لديها لأن الكثير من المجرمين اندسوا في أحيائها جل ما يريدونه زعزعة أمن البلد وتشويه سمعتنا نحن الذين هربنا من الموت والعنف الطائفي».

ويتوزع العراقيون في دمشق على مساكن برزا وقدسيا وعلى ضواحيها في مناطق «التل» و «صيدنايا» و «حرنة» و «صحنايا» و «جرمانة» و «معرونة» و «معرة» و «جديدا»، فضلاً عن حلب والقامشلي والحسكة المجاورة لحدود العراق الشمالية.

يحكي أبو متى وهو سرياني قدم من الموصل مع عائلته وأقام في صيدنايا ان عائلته لا تشعر بالغربة «لكن العودة الى بلدنا أُمنية, فلا استقرار نهائياً إلا في موطننا الأصلي حيث عشنا».

أما عن سبب فراره من العراق فيقول: «قتل ابني ثم هدد مجهولون بقتل ابني الآخر». ويضيف: «كنا ننوي الذهاب الى قرى الشمال الهادئة ولكن أخي المغترب أقنعني بأن القدوم الى سورية سيمكنني من تقديم معاملة هجرة من طريق الأمم المتحدة الى دولة أجنبية كلاجئ وفعلاً قدمت المعاملة وأنا في الانتظار حتى الآن».

وعن العيش في سورية تقول زوجته: «المهم الأمان والرزق على الله»، وتضيف: «نخشى العودة الى العراق وبيع البيت والاثاث والسيارة او على الأقل تأجير البيت». وكان تقرير صادر عن منظمة «اليونيسيف» و «البرنامج العالمي» للغذاء أشار الى ان حوالى 450 ألف عراقي في سورية يواجهون صعوبات تتعلق بمخالفات أنظمة الإقامة ومحدودية الدخل، ودعا التقرير الدول المانحة الى زيادة قيمة المعونات للبرنامج العراقي، لتقارب 25 مليون دولار في العام الحالي.

وتتابع أم متى «الورقة الواحدة (مصطلح عراقي يعني 100 دولار اميركي) لا تكفي أسبوعين في الموصل لكن مثيلها السوري اي ما يعادل 5000 ليرة سورية يسد نفقات الشهر ما عدا طبعاً الإيجار».

وكان عراقيون اعتصموا أمام مفوضية الأمم المتحدة في دمشق مطالبين الرئيس السوري بشار الأسد التدخل لمنع ترحيلهم الى العراق الذي وصفوه بـ «الجحيم».

وجَد معظم العراقيين عملاً يقومون به في سورية وتقبل الحكومة السورية الطلاب العراقيين في مدارسها من دون شروط أو رسوم كما أصدرت قراراً يقضي بتقاضي نصف قيمة إجراء عملية جراحية للمريض العراقي سواء في المستشفيات الحكومية أو الأهلية.

ويقول نجدت وهو مهندس مدني كان يسكن مع والدته وأخته في كركوك: «يوجد الكثير من الشباب العراقي هنا وكلهم من أصحاب الشهادات العلمية وبعضٌ من أصدقائي وجد عملاً في المطاعم او مراكز الانترنت والصالات الرياضية أو أعمال البناء أو البيع في دكاكين صغيرة». ويضيف: «تقدمت مع عائلتي بطلب للجوء الى استراليا عبر سفارتها وعبر منظمة الأمم المتحدة فضلاً عن طلب آخر للهجرة الى أميركا من طريق منظمة الهجرة الدولية». وعن الوضع في بلده يقول: «لا أشعر بالتفاؤل حيال تحسن الوضع. يجب أولاً خروج الأميركيين ويجب ثانياً اقامة حكومة غير طائفية وبناء جيش حيادي وهذا لا أراه في القريب العاجل».

وقدرت مفوضية اللاجئين على لسان ممثلتها في دمشق ديترون غانتر عدد اللاجئين العراقيين في سورية ما بين 800 ألف ومليون لاجئ تسجّل منهم نحو 51 ألفاً واتخذت تدابير لتسجيل 20 ألف آخرين من الآن وحتى حزيران (يونيو).

وفي تقارير سابقة أكدت الأمم المتحدة ان نصف اللاجئين المسجلين لديها هم من المسيحيين، على رغم أن المسيحيين لا يشكلون إلا ثلاثة في المئة من سكان العراق وغالبيتهم هربت من المضايقات وعمليات الخطف والقتل والتمييز الطائفي. ويفر المسيحيون من بغداد والموصل وكركوك والبصرة بعد تفجيرات طاولت كنائسهم.

ويدفع العراقيون بدلات الايجار الشهري للشقق التي يستأجرونها وغالبيتها مفروشة فيما يعجز الكثير من السوريين عن ذلك بسبب الفارق في سعر العملة بين البلدين قياساً الى الدولار الأميركي.

يقول بيان الجنابي، وهو وسيط لاستئجار العقارات ان «أسعار العقار مشابهة للأسعار في العراق وكذلك أسعار البضائع والسلع. فقط أسعار النقل والاتصالات أغلى»، ويضيف: «لقد ساهم العراقيون في إنعاش المكاتب العقارية وتأمين مداخيل كبيرة للسوريين بعد الحرب».

زفة عراقية

أفضى الوجود العراقي في سورية الى قدوم مئات الشباب العراقي المغترب منذ حرب الخليج 1990 الى سورية بحثاً عن النصف الآخر وهذا النصف ليس بالضرورة عراقياً فكثير من العراقيين دخلوا القفص الذهبي متزوجين بسوريات والعكس.

وفي كل يوم خميس تشهد الكثير من الشوارع التي يقطنها العراقيون ازدحاماً بسبب عرس عراقي. وتقول أم ميشيل وهي سورية: «قدمت الى الحفل لأرى العرس العراقي. انه لا يختلف كثيراً في طقوسه عن أعراسنا».

وفي طوابير اللاجئين الى الدول الأجنبية يمكن ملاحظة كثرة الفتيات العراقيات اللواتي ينتظرن الحصول على تأشيرة للالتحاق بأزواجهن في السويد وألمانيا واستراليا وغيرها.

وتدرس الأمم المتحدة إمكان رفع المنح المقدمة الى الدول التي تستقبل النازحين العراقيين. وكانت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس شكلت لجاناً متخصصة في هذا الصدد، وبعد أن كانت قيمة التبرعات 150 مليون دولار أميركي عام 2003 انخفضت إلى 29 مليون دولار 2006 حيث يتم إنفاق ربع هذا المبلغ على العراقيين في سورية التي تستضيف أكبر عدد من العراقيين قياساً الى دول الجوار.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)