سري سمور / جنين ـ فلسطين

مليارات الدولارات تُنفق على الأبحاث العلمية في الدول الغربية واليابان، ويبذل الباحثون والعلماء وقتاً طويلاً وجهداً مضنياً لعلهم يتوصلون إلى علاج لمرض خبيث أو لقاح لداء قاتل، ينجحون تارة ويُخفقون أخرى، وفي أحيان كثيرة تكون نسبة النجاح ضئيلة، ولكنهم لا يكلون ولا يملون، والثقة بالنجاح كبيرة وإن طال الزمن، فالمستحيل في قاموسهم غير موجود، واستمرار التجارب والأبحاث ديدنهم وديدن تلامذتهم الذين يأتون من بعدهم.

أما حال البحث العلمي والإنفاق عليه والعناية بأهله في وطننا العربي الكبير فلا يسر صديقاً، وهذا هو أحد أسباب هجرة العقول من هنا إلى هناك؛ فقد يكون المخترع لجهازٍ إلكتروني أو المكتشف لمصلٍ أو دواءٍ عربياً مسلماً فتحوا له خزائن أموالهم ومختبرات جامعاتهم ومراكز أبحاثهم، ومنحوه جواز سفر بلدهم...

هذا الأمر أصبح معلوماً للقاصي والداني، ونواجهه بندب الحظ ولطم الخد، والنقد بكتابة المقالات والتقارير الصحفية، وأيضا ـ وبعناد كبير ـ بالافتخار بالماضي والتغني بالمجد التليد بأننا كُنا سـبَّاقين في ميدان العلوم والمعارف التي بنى عليها الآخر مجده الحالي، لأن ابن النفيـس وابن سـينا والرازي من أبناء جلدتنا، وأن أول الجامعات وأعرقها وُجدت في مشـرقنا الذي كان مضيئاً يوم أن كان غربهم يغرق في ظُلمات الجهل، وكأن التفاخر بالأمجاد وأنوار الماضي يُعوضنا عن تخلف الحاضر وظلماتـه!

فوق ما سبق ظهر لدينا تجارة من نوع خاص تُستخدم فيها أدوات التقنية الحديثة التي نحن لها من المستهلكين لا المنتجين؛ إنها التجارة بآلام الناس وآمالهم! فلا يكفينا تخلفنا وقلة حيلتنا وهواننا، بل ابتكرنا تجارة لا تُضيء شمعة في الظلام، بل تزيد سواد الظلام حلكة وتدفع أعداداً لا يُستهان بها منا للجري وراء سراب خادع.

من أصيب بمرض خبيث أو داء مزمن أو من يرغب في إنجاب ولد أو بنت وابتُلي بالعقم هو إنسان يتألم، وأي بادرة لشفائه تفتح له أبواب الأمل؛ وهناك ـ مع الأسف ـ من تخصص في المتاجرة بالألم والأمل، فهناك الإعلانات عبر المرئيات ومواقع (الإنترنت) والصُحف عن وجود دواء من الأعشاب الطبيعية أو "الخلطات السحرية" التي تشفي العليل وتمنح البنين والبنات للعقيم؛ وهناك من يختصر على أصحاب الآلام والآمال من المرضى استخدام العلاجات الكيماوية أو الأعشاب الطبيعية، فالحل والشفاء عندهم بترديد بعض الآيات القرآنية الكريمة والأدعية والأذكار!

دون إساءة للفهم فأنا لا أنكر ـ وحاشا لله ـ ما ورد في كتاب الله العزيز وسنة نبيه المطهرة حول الخصائص العلاجية لبعض المواد الطبيعية والنباتات، فالعسل (((فيه شفاء للناس)))، والحبة السوداء (حبة البركة او القزحة)، وكذلك الزنجبيل والزعتر وكثير من النباتات فيها دواء، وقد أكد العلم الحديث فوائدها الكثيرة، ولكن القرآن والسنة لم يقصرا العلاج على هذه المواد وحسب، بل حضَّ الحبيب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على التداوي، لأن لكل داء دواء، ثم إن ما يُعرف بـ "الطب البديل" و"التداوي بالأعشاب الطبيعية" والمساجات وما شابه له أصوله العلمية، وله أساليب تدريس يتخصص بها من كان أهلاً لذلك، وقد أخبرني أحد الحاصلين على شهادة (ماجستير) في النباتات الطبية أن كل نبتة أو عشبة فيها مواد علاجية يجب أن تُستخلص وتُستخدم بطرق علمية خاصة، وإلا فإن المريض لن يستفيد ولربما كان أثرها سلبياً؛ فإن قلنا أن الزعتر أو القزحة أو أوراق شجر الكينا فيها مواد شافية لعدد من الأمراض فهذا لا يكفي لأن هناك أصولاً لاستخدامها، ولا يحق لأي مدعٍ أن يقول أن طريقة الاستخدام كذا وكذا دون تخصص ودراسة مستغلاً ألم المريض وبصيص أمله في الشفاء وتخفيف الألم والمعاناة!

تظهر إعلانات كثيرة عن تركيبة من الأعشاب لا نعرف مكوناتها ولا في أي المختبرات قد فُحصت تفعل العجائب وتُشفي السقيم وتُدواي العليل، وبسعر يقولون أنه معقول، وبإظهار أشخاص يزعمون أو يعتقدون أن شفاءهم من أمراض السكر أو السرطان أو العقم كان بسبب تلك "الخلطة السحرية" مما يدفع المتألم صاحب الأمل في التعافي لشراء هذه التركيبة؛ فتابعوا من اشتروا وكم منهم قد شفي، صحيح أن الشفاء من الله عز وجل، ولكن الأسلوب الدعائي الذي يضرب على الأوتار الحساسة لإنسان يُعاني من المرض يوحي بأن احتمال الشفاء مئة بالمئة؛ وبعض الذي اشتروا يتحدثون عن تفريغ جيوبهم وزيادة إحباطهم، فبعض الذين اشتروا تلك المواد فوجئوا بأن عليهم دفع الضريبة وتكاليف الشحن والنقل إلى مكان سكناهم، ليكون مجموع ما دفعوه ليكون الترياق العجيب بين أيديهم أكثر وبفارق ليس بالقليل عما يظهر في الإعلان، وبعد استخدام الدواء المزعوم بالطريقة المشروحة في الإعلان وعدم حصول تحسن في حالة المريض، يقولون له أن عليه أخذ جرعة "كورس" آخر ويليه آخر وآخر، حتى يقول المريض ليتني وفرت مالي أو ذهبت به للعلاج في مركز طبي متخصص حتى خارج الوطن!

أي تجارة هذه التي تتلاعب بمشاعر المرضى!؟ وأي استخدام مريب لآيات الله وأحاديث نبيه!؟

هذا أمر خطير خاصة وأنه قد دخل كل بيت بفضل وسائل الاتصالات الحديثة وأساليب الدعاية فائقة الإتقان، أما الآخر وراء المحيطات فهو يُجري الأبحاث على الأعشاب والعسل ويفتح المراكز العلمية المتخصصة بهذه الأشياء، لنجده الأول في مجال طب الأعشاب والعلاج الطبيعي مثلما كان الأول في العلاجات الكيماوية، فيما بعضنا لم يكتفِ بتخلفنا فتاجر بآلامنا واستغل أملنا، وأنا لا أحكم على النوايا فقد يكون بعض هؤلاء جاداً في رغبته مساعدة المرضى على الشفاء ولكن النوايا الحسنة لا تكفي وحدها.

أما الذين يقولون أن شفاء الأمراض بقراءة الآيات القرآنية وبعض الأدعية والأذكار، فشأنهم أكثر خطراً، فإن أنت ناقشت طرحهم ظهرت كمن يُشكك بآيات الله البينات؛ لكن ما ذهبوا إليه لا يتوافق مع روح الإسلام، فنحن نعلم أن سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر احدهم بالتداوي عند الحارث بن كلدة الطبيب العربي الحاذق في ذاك الوقت، ولم يكن الحارث مسلماً، ونعلم قصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الفتية الذين كانوا يدعون الله أن يشفي إبلهم، فطلب منهم أن يجعلوا مع الدعاء شيئا من القطران، فالاستعانة بالوسائل المادية لا بد منه مع الإيمان والتوكل والدعاء والرقى الشرعية وغيرها؛ أما الاقتصار على الرقى والأدعية وحده لا يجزي، ولا أحسب أن مبلغ العلم والإيمان عند من يُروجون لهذه الأمور يفوق معشار ما لدى عمر بن الخطاب!

وذيول وتبعات المتاجرة بآلام وآمال الناس طالت الجانب الثقافي أيضا؛ فالأرصفة والمكتبات زاخرة بكتب التداوي بالرقى الشرعية والأعشاب الطبيعية لأمراض استعصت على النطاسيين ومن أفنوا أعمارهم في مخابر البحث، وهذه الكتب أُضيفت إلى كتب الشعوذة ومواضيع السحر والجان، وتلقى رواجاً كبيراً وقرّاءً يزدادون يوماً بعد يوم، أما أمهات الكتب أو الكتب العلمية المتخصصة فأتمنى لها "حظا أوفر" حين تُشفى عقولنا ويكف المتاجرون بآلامنا وآمالنا عن تجارتهم، ولهم أقول: بغض النظر عن نواياكم.. حسبكم ورفقاً بأمتكم ولا تزيدوا الثقوب في ثوبها الممزق!