يعد المؤتمر الدولي المقرر انعقاده في بغداد يوم السبت المقبل، العاشر من مارس الجاري، الخطوة الإيجابية الأولى باتجاه كبح جماح العنف الفظ المستشري في العراق، والذي يهدد في الوقت ذاته بزعزعة استقرار الشرق الأوسط كله. وميزة هذا المؤتمر أنه سيتيح الفرصة للحكم على مدى وجود إرادة سياسية داخل العراق وخارجه، ولوقف الانزلاق المتسارع نحو الفوضى والتمزق، ولإعادة بناء العراق بدلاً من ذلك، كدولة موحدة وقادرة على أن تحتل مكانها اللائق بها في النظام العربي الإقليمي. وبعد مضي أربع سنوات دامية منذ الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق في مارس من عام 2003، وهو غزو إجرامي استعماري حديث بكل المقاييس، ها نحن نخطو الخطوات الأولى لمداواة الجرح الكبير الذي أحدثناه هناك. ويتوقع لهذا المؤتمر أن يشهد مشاركة إقليمية من قبل جيران العراق، بما فيهم مصر وغيرها من الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، إلى جانب مشاركة "منظمة المؤتمر الإسلامي"، والأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي: الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا. وقد سبق المؤتمر في الرابع من مارس الجاري، لقاء ثنائي على قدر كبير من الأهمية، جمع بين كل من العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، في العاصمة الرياض. وقد أشار ذلك اللقاء إلى عزم الزعيمين الكبيرين على التقاط زمام المبادرة والتصدي لمهمة صنع مستقبل المنطقة، بدلاً من تركها لقمة سائغة لتدخلات القوى الأجنبية.

أما احتمال جلوس ممثلين دبلوماسيين لكل من إيران وسوريا والولايات المتحدة الأميركية إلى مائدة المؤتمر، على مستوى السفراء، فيشير هو الآخر إلى أنه ربما بدأ النهج الواقعي البراجماتي يفعل فعله ويسود في واشنطن، بعد مضي سنوات وسنوات من العمى الأيديولوجي.

على أنه ليس لأحد أن يتوقع أن يكون طريق التقدم إلى الأمام في هذا المنحى، سهلاً ومعبداً. فمما لاشك في أن مجموعات كـ"القاعدة"، التي تأمل في أن تنشئ لها مرتكزاً في العراق، تواصل منه تنفيذ عملياته وأجندتها الأوسع نطاقاً، ستعمل بكل ما في وسعها على تقويض عملية السلام هذه. وهناك جماعات أخرى لا تزال تشعر بالغبن وبعدم تلبية طموحاتها وأطماعها، ولذلك فهي شديدة الحرص على مواصلة القتال. لكن على رغم ذلك، فإن في انعقاد المؤتمر بحد ذاته، ما يشير إلى صحوة العالم أخيراً وانتباهه لمخاطر السماح للعراق بالانزلاق إلى مهاوي الفوضى والتمزق الداخلي.

ومن وجهة نظري الشخصية، فإن هناك ستة متطلبات لابد من توفرها حتى يسود ويرسخ السلام.

أولاً، ضرورة إدراك الدول الإقليمية المجاورة للعراق، لحقيقة ألا مصلحة لها البتة –بل أنها ستخسر الكثير في واقع الأمر- من نشوب المزيد من النزاعات الإقليمية. ويقيناً فإن هذا الهدف سيكون من أهم ما في جدول أعمال مؤتمر بغداد، وكذلك الاجتماعات التي ستليه خلال الأسابيع القليلة المقبلة، التي لا يستبعد انعقادها على مستوى وزراء الخارجية. وبالنظر إلى اختلاف التطلعات وتباين المصالح الحيوية بين المؤتمرين والمجتمعين، فإنه ليس من السهل التوصل إلى اتفاق فيما بينهم.
ثانياً، لقد آن لكافة المليشيات والفصائل العراقية المختلفة، أن تتفق على أهمية وضع حد للاقتتال والعنف. على أن الجزء الأعظم من هذا الاتفاق، يعتمد على مدى توفر صيغة لاقتسام السلطة والثروة فيما بين المسلمين السُّنة والشيعة والأكراد، وكذلك على ما إذا كانت الدول الإقليمية المجاورة للعراق، ستمارس المزيد من الضغوط على هذه الكيانات، بغية حملها على التراضي والاتفاق فيما بينها. ولن تكون هذه بالمهمة السهلة على أي حال، طالما أن بين هذه الجماعات من يريد مواصلة الإبادة والتطهير العرقي الذي بدأ بالفعل، وطالما استمر الصراع بين الشيعة والسُّنة على السيطرة على مواقع نفوذ بعينها، وطالما أن هناك من يتعطش ويتحرق شوقاً للثأر للدماء الطائفية العشائرية التي أريقت سلفاً. لكن ومهما يكن، فإنه لابد من سيادة روح التراضي والتصالح، ولا مناص من قناعة الكل بضرورة وحدة التراب والوطن.

ثالثاً، لقد أضحى ضرورياً إقناع الأكراد بأن أفضل مستقبل لإقليمهم الذي حافظ على استقلاله الذاتي عن بغداد إلى حد كبير، ليس في انفصاله عن العراق، وإنما في بقائه فيه، في ظل وحدة فيدرالية يتمتع فيها الإقليم باستقلاله الذاتي القائم. وكما نعلم، فإن في نية الإقليم إجراء استفتاء شعبي عام على ما إذا كانت مدينة كركوك الغنية بالنفط ستتبع لبغداد أم لحكومة إقليم كردستان. وفي رأيي أن فكرة الاستفتاء هذه خاطئة من الأساس، لكونها ستشعل نيران معارضة مستعرة لها، ليس من قبل المسلمين الشيعة والسُّنة وحدهم، وإنما من قبل الحكومة التركية كذلك. وعلى الأكراد أن يتحلوا بكياسة وفطنة "أن ليس كل ما تتمنى النفس تدركه" حرصاً على وحدة العراق واستقراره.

رابعاً، على الولايات المتحدة أن تدرك أنه لا سبيل لإحلال السلام في العراق، ما لم تحدد موعداً زمنياً قاطعاً لانسحابها العسكري الكامل منه. يذكر هنا أن "روبرت جيتس"، وزير الدفاع الأميركي الجديد، كان قد ألمح إلى رغبة بلاده في إبقاء قواعد عسكرية طويلة الأمد لها في العراق، على غرار قواعدها في كل من ألمانيا واليابان وغيرهما. والحقيقة أن واشنطن ليست بحاجة لأية قواعد عسكرية في العراق بحجة حماية مصالحها الحيوية. بل العكس تماماً، فإن السبيل الوحيد لاستعادة واشنطن لسطوتها ومصداقيتها أمام العراقيين، هي أن تعلن لهم أنها لا تخطط مطلقاً للبقاء في بلادهم، وأنه لا أطماع مستقبلية لها، للهيمنة على العراق أو نفطه.

خامساً، يتطلب صون أمن العراق واستقراره، إعادة بناء جيش وطني قوي وقادر على ترويض المليشيات وكسر شوكتها، شريطة ألا تفوق قدرته حداً يثير مخاوف كل من الجارتين الكويت وإيران، اللتين عانتا الأمرَّين من التغولات والمطامع العراقية عليهما في الماضي القريب. وعلى رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الولايات المتحدة في تدريب قوات الجيش والشرطة العراقية، فإن الأفضل أن يتولى العراق نفسه هذه المهمة. وما وحشية القتل اليومي لمجندي الشرطة والجيش العراقيين، إلا دليل على مدى خطر القرب من قوى الاحتلال الأجنبي.

سادساً وأخيراً: لابد من إنشاء برنامج دولي لإعادة توطين اللاجئين والنازحين العراقيين البالغ تعدادهم أربعة ملايين نسمة، يعيش معظمهم أوضاعاً جد مأساوية ومزرية. وليس هناك من وقت يمكن هدره في جمع الأموال اللازمة لهذا البرنامج، مع توقع أن تسهم فيها الولايات المتحدة بنصيب الأسد. وكم ستطول بنا السنين، لإزالة كابوس هذه الحرب، التي تعد من كبريات جرائم تاريخ البشرية الحديث.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)