يبدو أن "اتفاق مكة" أصبح في نظر حركتي (فتح) و(حماس) "ثابتا وطنيا" يتقدم على كل "الثوابت الوطنية" الأخرى للشعب الفلسطيني، وتقتضي المحافظة عليه التغاضي عن أشياء كثيرة بما في ذلك مخططات حكومة أولمرت في الاستيطان، و تهويد ما تبقى من القدس، واستكمال بناء الجدار العازل، ليصل إلى حياة المواطنين الذين تستهدفهم عملية "الشتاء الحار" التي تعرضت مدن نابلس وجنين وغيرهما في إطارها للتوغل والدهم وانتهت بحصار الضفة بأكملها بحجة بالية هي البحث عن مطلوبين.
فبالنسبة لحركة (فتح)، تأتي العملية، كما جاء في بيان للحركة، دليلا على "إفلاس السياسة الإسرائيلية" و"هروبا من استحقاقات مستقبلية بعد توقيع "اتفاق مكة" الذي أعد الجانب الفلسطيني للتفاوض على كل الملفات. بمعنى آخر، ترى حركة (فتح) أنه بعد "اتفاق مكة" أصبح الفلسطينيون جاهزون للتفاوض ولم تعد هناك عقبات تمنع ذلك! فهل كانت المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والإسرائيليين توقفت بسبب عقبات فلسطينية؟ وهل كان الفلسطينيون يرفضون العودة للمفاوضات؟ أم أن حركة (فتح) قصدت أن تقول إن حركة (حماس) لم تعد تشكل عقبة في الطريق؟ الأرجح أن القول الأخير هو ما قصدته (فتح) في بيانها، خصوصا أنها استندت إلى "اتفاق مكة" لتقول ما جاء في البيان. والسؤال: هل حقا لم تعد حركة (حماس) عقبة في طريق المفاوضات وسعي (فتح) والسلطة الفلسطينية لاستئنافها؟ وماذا يعنى ذلك سياسيا، وكيف يمكن أن يفهمه المواطن الفلسطيني؟

يبدو أن حركة (فتح) محقة في ما ذهبت إليه، ولم تخطيء في فهمها للموقف السياسي الجديد لحركة (حماس) بعد "اتفاق مكة". فقد كان من الواضح، حتى لمن لم يطلعوا على ما جرى في مكة ومهد للتوصل إلى الاتفاق، أن حركة (حماس) منذ فوزها في الانتخابات التشريعية الأخيرة أصبحت تصارع على السلطة، أو على حصتها في السلطة، وأن هذا الصراع هو الذي فتح الباب على الاقتتال الداخلي الذي أصبح وقفه مبررا للتوصل للاتفاق الذي أرادت (حماس) من خلاله أن تحصل على الاعتراف والشرعية، الإسرائيلية والدولية أساسا. وإذا كان هذا التصور صحيحا، وهو بدلالة الوقائع صحيح، فإن ما تراه (فتح) من أن عقبة كأداء- أو ذريعة أساسية- تكون قد زالت من طريق المفاوضات يصبح صحيحأ، ويصبح على إيهود أولمرت أن يبحث عن ذريعة أخرى إن كان لا يريد استئناف المفاوضات.

ولنتأكد من صحة فهم (فتح)، والتصور الذي الذي سقناه قبل قليل، نتوقف عند تصريحين لرئيس الحكومة الفلسطينية المكلف إسماعيل هنية تعليقا على عملية "الشتاء الحار" الإسرائيلية، يظهر منهما كيف تنظر إلى التصعيد العسكري الأخير في الضفة الغربية. في التصريح الأول قال هنية: إن "إسرائيل" بتصعيدها العسكري تستهدف اتفاق مكة وإسقاطه. وفي التصريح الثاني أكد على ما جاء في التصريح الأول، بالقول: إن "إسرائيل" تريد استدراجنا عسكريا لمنعنا من تنفيذ اتفاق مكة. ولم ينس هنية أن يحذر من أن يستدرجنا الإسرائيليون إلى مواجهة غير مطلوبة الآن، حفاظا على "اتفاق مكة"! هكذا لم تعد لحكومة أولمرت أية أهداف لدى الفلسطينيين والأراضي الفلسطينية غير إسقاط "اتفاق مكة"، وهو ما يجعل هذا الاتفاق أهم من كل ما عداه على الأجندة الوطنية.

قد يقول بعض المدافعين عن (حماس) إن هنية كان يقصد بقوله أن الإسرائيليين يريدون الإيقاع مجددا بين حركتي (فتح) و (حماس) إذا ما تمت الاستجابة للتصعيد العسكري الإسرائيلي و"استدراج" بعض فصائل المقاومة لمواجهة هذا التصعيد. وبذلك تختلف الفصائل، وتتجدد الاشتباكات بين الأطراف الفلسطينية وينتهي الاتفاق. لكن مثل هذا الدفاع ينفع كلائحة اتهام ضد الحركتين معا أكثر مما ينفع كمرافعة للدفاع عنهما، فهو من جهة، يفيد بأن (فتح) ضد الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، وهو من جهة أخرى يفيد بأن (حماس) رضخت لمشيئة (فتح) بهذا الخصوص، إضافة إلى أن الاتفاق الذي يمنع الفلسطينيين من حماية أنفسهم، والرد على اعتداءات عدوهم، هو اتفاق ليس في صالحهم بأي حال.

ولعل السؤال الأهم الذي يفرضه "عدم الاستدراج" العسكري الذي طالب به هنية هو: ماذا عن الاستدراج السياسي الذي استدرجت إليه حركة (حماس) في العام المنقضي على وصولها إلى الحكومة؟ وأيهما أخطر على القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية؟ لقد تعهد خالد مشعل في موسكو أن (حماس) ستوقف توجيه الصواريخ إلى "إسرائيل". وفي موسكو أيضا، وقبلها في القاهرة، أعلن أن "إسرائيل أمر واقع" و"أننا نسعى لإقامة دولة فلسطينية مستقلة في حدود 1967 إلى جانبها". وخلال عام ونصف مضت لم تنفذ (حماس) ولا عملية عسكرية واحدة، والحديث طويل عن الهدنة، وعن عدم اعتراض (حماس) على مفاوضات يجريها الرئيس محمود عباس ومنظمة التحرير الفلسطيينية... وغير ذلك كثير مما يفيد أن الاستدراج السياسي لحماس قائم على قدم وساق وسابق لمحاولات الاستدراج العسكري الذي يحذر منه هنية.

لقد استدرجت (حماس) سياسيا منذ وقت، وأصبحت اليوم تحذر من الاستدراج العسكري، والاستدراج السياسي وعدم الاستدراج العسكري يعني الانخراط في ما يسمى "التسوية" والالتزام بما يسمى "نبذ العنف"، فماذا بقي تختلف عليه (حماس) مع (فتح)؟! . وهناك من ينفي أن تكون (حماس) قد استدرجت سياسيا أو عسكريا، ويؤكد أنها تعرف ما تريد، وأن ما يبدو اليوم استدراجا كان قرارا حمساويا مع الوعي الكامل بكل تبعاته وتداعياته وآثاره ونتائجه.