بعد مضي فترة سنة وأربعة أشهر على اعلان دمشق، حفلت بالكثير من الأحداث والمتغيرات، ربما أصبح ضروريا اجراء وقفة لتقويم ونقد مسار الاعلان، واستخلاص العبر والنتائج، وبغير ذلك فان التهميش والانعزال يغدو المصير الأكثر احتمالا لتلك المبادرة.

الملاحظة الأولى : أن الأمور لا تسير على ما يرام، فالوعد الذي أطلقه الاعلان ببدء عملية التغيير الشامل لم يثبت أية مصداقية على الأرض، وعلى النقيض من ذلك فنحن اليوم أبعد عن التغيير من أي وقت مضى، والحراك الوطني الديمقراطي الذي كان خافتا وضعيفا عشية اعلان دمشق أصبح اليوم مشلولا بصورة تكاد تكون شاملة.

من السهل القاء اللوم على قمع النظام، ولكن هل كانت مبادرة اعلان دمشق تتوقع أن يكون النظام أكثر تساهلا في مواجهة اعلان بدء التغيير الشامل والحديث عن القطع مع النظام..الخ..

الملاحظة الثانية : أن رصيد اعلان دمشق داخل النخب السياسية والثقافية ودوائر الرأي العام القريبة منها ما انفك يتآكل باستمرار حتى اليوم والحساب هنا لا يدور فقط حول ما لم بفعله اعلان دمشق ولكن أيضا حول القليل الذي فعله والذي كان مثارا للانتقاد والجدل أكثر من كونه أداة للجمع والتحريض باتجاه الأهداف المعلنة لمبادرة الاعلان، فالاستغراق في البيانات المخصصة لتحليل الأحداث الخارجية ورسم مواقف منها أنتج انقسامات وجدلا داخل اعلان دمشق وحوله والقى بعض الظلال حول المحاور الاقليمية والدولية التي يسعى الاعلان لملاقاتها والتكيف معها.

الملاحظة الثالثة : أنتج ظهور جبهة الخلاص الوطني واقعا (جيو-سياسيا) جديدا لم يتمكن اعلان دمشق من استيعابه واستخلاص النتائج منه وقد انعكس ذلك في زيادة الارتباك داخل اعلان دمشق، فالمعنى السياسي الواقعي لنشوء جبهة الخلاص هو وجود برنامج تغيير قادم من سياق مختلف عن سياق مبادرة الاعلان، وبدلا من اضاعة الوقت كان الأجدى استخلاص النتائج ورسم التخوم بين البرنامجين وتوضيح الفارق بطريقة ديمقراطية ولكن لالبس فيها.

الملاحظة الرابعة : حملت مبادرة الاعلان معها في ذاتها التباسا أدى الى أزمة في فهم جوهر المبادرة ووظيفتها فبدلا من فهمها كاعلان لتحالف تكتيكي لقوى تختلف في الايديولوجيا والخطوط الفكرية – السياسية، تحالف يستهدف حشد القوى والتنسيق فيما بينها على الأرض من أجل مطالب ديمقراطية محددة كانتزاع الحريات العامة، وسيادة القانون، وانتهاء العمل بقانون الطوارىء، وانهاء الاعتقال السياسي..الخ..فقد فهمت مبادرة الاعلان باعتبارها انتاجا فكريا – سياسيا أكثر تطورا من برامج الأحزاب السياسية المنخرطة في المعارضة، وبديلا عن التجمع الوطني الديمقراطي، وقاد ذلك الفهم لزج مبادرة الاعلان في كل عناوين الصراع السياسي والفكري الدائر في سورية والمنطقة العربية والعالم، وباختصار فقد تم اسقاط النظرة الحزبية على اعلان دمشق، وأسفر ذلك عن تعمق الخلافات داخل الاعلان وشله من جهة، وعن اضعاف ديناميكية الأحزاب والتجمع الوطني الديمقراطي من جهة أخرى.

الملاحظة الخامسة : ساد الاعتقاد لحظة ظهور الاعلان بما حملته من نشوة وأوهام بأن الاعلان أصبح الممثل الشرعي الوحيد للمعارضة السورية، فخارج معسكر الاعلان لايوجد سوى معسكر النظام وعلى الجميع الاختيار، وقد أسهم ذلك الفهم في توليد عقلية انغلاق وتعال تعامل بها الاعلان مع التيارات السياسية الأخرى ومجموعات المثقفين المستقلين، وبعض اللجان والهيئات التي توجهت لفتح حوار مع الاعلان، لقد كانت رسالة الاعلان واضحة وقاسية اما ان تكونوا معنا داخل الاعلان أو ضدنا خارجه ولسنا معنيين بأي حوار معكم.

ورغم ان تشكيل جبهة الخلاص الوطني وجه ضربة قاسمة لوحدانية تمثيل اعلان دمشق للمعارضة، فان تلك العقلية استمرت تفعل داخل الاعلان لتعمق من أزمته وتساهم في عزله.

الملاحظة السادسة : يجب الاعتراف أن اعلان دمشق جاء على خلفية مشاعر قوية سادت قبل مبادرة الاعلان من ان النظام في طريق الانهيار بسبب الضغوط الخارجية، وقد حملت مبادرة الاعلان داخلها فكرة المراهنة على تلك الظروف باعتبارها رياحا مواتية للتغيير ينبغي ملاقاتها، ويفترض ان يكون قد توضح الآن أن تلك الفكرة لم تكن خاطئة كتحليل سياسي فقط ولكنها كانت خاطئة من حيث أسست لسياسة وطنية قائمة على المراهنة على تقلبات السياسة الدولية المراوغة، وقد نتج عن تلك المراهنة الخاطئة رفع سقف المواجهة مع النظام الى حدود لاتقدر المعارضة على دفع استحقاقاتها في ظل توازن القوى بينها وبين النظام، والنتيجة المؤلمة التي حصدناها هي تشديد قبضة النظام الأمنية وشل نشاط المعارضة أكثر من أي وقت.

لقد أصبح مطلوبا وضروريا استعادة العقلانية في سياسة المعارضة، وبناء التكتيك في ضوء التوازن الحقيقي للقوى داخل سورية، والابتعاد عن السياسات المغامرة التي تسفر عن الانتكاس والتراجع للخلف.

في هذا السياق لا بد من مراجعة الخطاب السياسي وتحديد الأهداف بانتزاع المطالب الديمقراطية، واستعادة المواقع التي خسرتها المعارضة سابقا، والانفتاح على مجموعات المثقفين والتيارات السياسية خارج الاعلان، والسعي لبناء حالة اجتماعية – سياسية تشجع على اقتراب الناس من الشأن العام وتمهد لاستعادة الحراك الوطني الديمقراطي وملاقاة كل المبادرات في هذا السياق، وبكلمة واحدة لا بد من سياسة طويلة النفس تعتمد على بناء قوى اجتماعية يستند اليها التغيير.

الملاحظة السابعة : كتعبير عن الأزمة وناتج لها توجه اعلان دمشق في بحثه عن المخارج لتعزيز بنيته التنظيمية (مكاتب ولجان رئيسية تتفرع عنها لجان فرعية الخ..) والحقيقة أن مثل ذلك التوجه لا يمكن ان يكون مفيدا حين يتم على حساب النشاط السياسي والشعبي، فالأطر التنظيمية التي لا يحتاجها الحراك الوطني الديمقراطي كضرورة تتحول بسرعة الى مؤسسات بيروقراطية تقتل فعالية ونشاط الحركة وتسهم بالتالي في تعميق أزمة الاعلان، وينطبق ذلك أيضا على فكرة المجلس الوطني الذي يمكن ان يعطي صورة مبتورة ومشوهة عن فكرة المؤتمر الوطني العام التي تستحق أن تكرس كعتبة على طريق التغيير الديمقراطي.

يلحظ المتابع للجهود التنظيمية التي تبذل في اعلان دمشق أن الانطباع الذي تولده صورتها هو التأسيس لسلطة بديلة أكثر من التأسيس لحركة وطنية – ديمقراطية تعمل للتغيير بطريقة تتناسب مع واقع الحراك الوطني الديمقراطي وامكاناته وتوازن القوى الفعلي، كأن المهمة المطروحة هي الاستفادة من تغيير قادم بتجهيز أطر للحكم في حين أن المهمة المفترضة هي صنع قوى التغيير وتلك مفارقة لايمكن المرور بسهولة عليها.

الملاحظة الثامنة : في مسيرة اعلان دمشق برزت عقبة حقيقية تمثلت في الافتقار لخطاب قادر على تعبئة الناس ودفعهم نحو تحمل مشاق ومخاطر الفعل السياسي، فالناس عندنا مهما كان شوقها للديمقراطية والحريات بحاجة لدمج الديمقراطية بخطاب وطني – اجتماعي تتلمس فيه استجابة للشعور بالكرامة الوطنية والاستقلال عن المحاور والقوى الدولية من جهة ودرجة من الاطمئنان حول مستقبل حياتها ومعيشتها ومصالحها من جهة ثانية.

قوى التغيير الاجتماعية الفاعلة لا يمكن ان تنشأ خارج لوحة الصراع الاجتماعي، وبالتالي فسبقى محدودا وهامشيا ومؤقتا أي تحالف يعوم فوق الانقسامات الاجتماعية (لا يعني ذلك نفيه بالكلية) ويظن ان مجرد رفعه لشعار الديمقراطية كافيا لحشد الناس وراءه في صراع طويل ومرير.

ذلك يعني أن علينا الا نتوقع الكثير من تحالف تكتيكي كاعلان دمشق، وبالتالي فقد كان خاطئا منذ البداية اعتباره أداة التغيير الرئيسية وتعظيمه على حساب الأدوات الأخرى مثل الأحزاب واللجان والتجمع الوطني الديمقراطي والنقابات.

ربما أصبح الوقت مناسبا للنظر لاعلان دمشق بواقعية أكثر بوصفه مجرد أداة سياسية تكتيكية من بين أدوات متعددة، ومثل تلك النظرة ستساهم في الابقاء على دور مستقبلي لاعلان دمشق، لكن ذلك يمر أيضا عبر تصويب مسار الاعلان سواء فيما يتعلق بالخطاب السياسي أو الممارسة العملية أو البنية التنظيمية.

مصادر
كنعان أون لاين (الولايات المتحدة)