لم يتخلف الرئيس الفرنسي جاك شيراك عن زيارة معرض فرساي الزراعي السنوي طيلة العقود الثلاثة الماضية. لقد اعتاد التجول بين الأبقار المعروضة ورفوف المنتجات الزراعية ومشتقات اللحوم المختلفة، يتذوق رقائق اللحم المجفف بطرق خاصة بهذه المنطقة الفرنسية أو تلك ويدلي بتصريحات سياسية أساسية رداً على سؤال مزارع من هنا أو تاجر لحوم هناك. ويدرك شيراك أن المزارعين يمثلون ما يعرف ب “العمق الفرنسي” أي الشطر الأبرز في الخريطة الانتخابية ولأنه يدرك هذه الحقيقة فهو يحفظ للمناسبة قولاً سياسياً ينطوي على أصداء مدوية.

قبل أيام جال شيراك السبعيني في أروقة المعرض الزراعي كعادته، فإذا بمزارع يسأله إن كانت هذه زيارته الأخيرة للمعرض كرئيس للجمهورية حيث من المفترض أن تنتهي ولايته في النصف الأول من مايو/ أيار المقبل. رد بابتسامة لطيفة توحي بأنه لن يكشف عن نيته في الترشح أو عدم الترشح لولاية ثالثة إلا في التوقيت الذي حدده أي أواخر مارس/ آذار الجاري. هكذا مر المعرض الزراعي الفرنسي لهذا العام من دون صدى يذكر لكلام الرئيس.

قبل أسابيع ألح الصحافيون على شيراك أن يرد على سؤال عما إذا كانت قمة فرنسا إفريقيا هي الأخيرة التي يرأسها لمعرفة ما إذا كان سيجرب الاحتفاظ بقصر الإليزيه للمرة الثالثة فكان أن رد بابتسامة مشابهة ونقل عن مساعديه أن قمته الإفريقية هي الأخيرة فعلاً.. لكن لهذا العام.

أن يتجنب شيراك الرد على هذا السؤال فذلك يندرج في حسابات انتخابية مبنية حتى الآن على فرضية امتناعه عن طلب ولاية ثالثة حتى إذا فاجأ مواطنيه بطلبها انقلبت تلك الحسابات رأساً على عقب، الأمر الذي يمنح الرجل قوة وازنة لا شك في أهميتها بالنسبة للسباق الرئاسي ولمستقبل شيراك أو لما تبقى منه.

ومع ذلك يبدو أن الرهان على ترشيح شيراك كالرهان على الفوز بجائزة “اللوتو” الكبرى، ما يفسر انصراف الفرنسيين إلى البحث عن رئيسهم المقبل بين المرشحين المعروفين إلا في حال اندلاع أزمة عالمية حول الملف النووي الإيراني يتضح من خلالها أن فرنسا تحتاج إلى رئيس مجرب، ولعل ذلك ما يفيد بامتناع الرجل عن قول كلمته الأخيرة حتى إغلاق باب الترشيح.

في هذا الوقت ربما كان وزير الداخلية المرشح نيقولا ساركوزي يصلي من أجل حل سلمي للأزمة الإيرانية، فهو المتضرر الأكبر من ترشيح شيراك، ولكنه ليس الوحيد، فحكومة الرئيس بشار الأسد تصلي للغاية نفسها وربما أيضاً جماعة من حكومة الرئيس العاجي لوران غباغبو. والكل ينتظر طي صفحة شيراك لاستئناف علاقات طبيعية مع باريس مجردة من “المشاعر القبلية والعناد والحماسة الشخصية” التي طبعت علاقة فرنسا مع البلدين وجعلتها ترتطم بالحائط.

يملي ما سبق سؤالاً مشروعاً عن جدوى الرهان السوري على مرحلة ما بعد شيراك فهل يستند إلى حسابات دقيقة أم أنه مبني على أوهام، كما يشيع خصوم سوريا في بيروت وباريس؟

ما من شك أن الرئيس الفرنسي أضفى طابعه الشخصي على سياسة بلاده أحيانا كثيرة، فقد غضب بطريقة عصبية في وجه رجال الشرطة “الإسرائيلية” في القدس المحتلة عام ،1995 ولوح باستخدام الفيتو ضد الولايات المتحدة الأمريكية عشية حرب العراق، كما لم يفعل رئيس فرنسي منذ الجنرال ديغول، ولم يعبأ بوزارة خارجية بلاده في الإعداد للقرار 1559 وغالبا ما كان يلجأ إلى مستشاره الشخصي غوردو مونتاني من دون المرور بالدبلوماسيين الفرنسيين، وزار لبنان عنوة للتعزية بالرئيس الراحل رفيق الحريري، ولم يتردد في الرهان على إسقاط النظام السوري وفي تحريض حلفاء فرنسا اللبنانيين ومعارضي سوريا في الخارج على العمل في هذا الاتجاه. والراجح أن ذلك كله سيتغير مع الرئيس القادم وأن رسائل فرنسية ربما وصلت بهذا المعنى إلى دمشق وإلى بعض المعنيين في بيروت.

بيد أن ما لن يتغير في علاقات البلدين هي الحسابات المبنية على موازين القوى في المنطقة، ففي لبنان باتت فرنسا شريكا للولايات المتحدة في قول ما ينبغي وما لا ينبغي لتيار لبناني واسع مناهض لسوريا، وصارت شريكاً مهماً للولايات المتحدة في دعم ما يسمى “محور الاعتدال” العربي الذي يطوق دمشق، وفي فلسطين تلعب مع الاتحاد الأوروبي دوراً مهماً في شؤون الحكم الفلسطيني، وفي مجلس الأمن الدولي لن تتخلى عن المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري. وفي العراق ربما تلتقي مع سوريا لكنها تتأثر بمحور “الاعتدال” العربي وبالسقف الأمريكي للتعاطي مع طهران ودمشق.

بالمقابل من المتوقع أن يكف الرئيس الفرنسي القادم عن العمل على إسقاط النظام السوري وبالتالي الامتناع عن رعاية مؤتمرات للمعارضة السورية في باريس، وليس معروفاً ما إذا كان ذلك سيشمل الطلب من عبد الحليم خدام مغادرة الأراضي الفرنسية، علماً أن فرنسا كانت على الدوام توفر اللجوء لمعارضين سوريين مع الحرص على تجنب الصراخ السياسي ضد النظام في بلادهم.

يبقى التذكير بأن العلاقات الفرنسية السورية ما بعد جاك شيراك ستتأثر أيضا بمصير الملف النووي الإيراني وبمصير الملف العراقي، فضلاً عن الملف اللبناني المشار إليه للتو، وفي مجمل هذه الملفات سيتطلب تنظيم العلاقات بين البلدين الكثير من الدبلوماسية والكثير من الكواليس والاتصالات خارج الأضواء والقليل القليل من العواطف والحماسة والعناد الشخصي وإطلاق “المشاعر القبلية” من الطرفين.

في مقابلة نشرتها مسائية “لوموند” مؤخرا تحدث نائب الرئيس السوري فاروق الشرع عن علاقات فرنسية سورية بعيداً عن “مشاعر شيراك العشائرية”. لا نعرف حسابات الشرع في التصدي المكشوف لرئيس فرنسي مازال وسيظل قادراً على طلب “الثأر” داخل وخارج الإليزيه، ما يستدعي قدرا من الامتناع السوري عن الاستفزاز والتلويح بالانتصار قبل سكوت المدافع.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)