الاتحاد / ويليام فاف

يجد فتور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تجاه الولايات المتحدة الأميركية تفسيرَه البسيط في نتائج استطلاع للرأي أجراه نهاية العام الماضي "مركز الاتحاد الأوروبي- روسيا" في بروكسيل (والذي يرأسه زعيمُ الحزب الليبرالي البريطاني السابق بادي آشدون)، ونُشرت نتائجه في الثاني والعشرين من فبراير المنصرم. فقد وجد الاستطلاع أن 16 في المئة فقط من الروس المستجوَبين يرغبون في قيام ديمقراطية على النمط الغربي في بلادهم؛ وأن 26 في المئة يرون أن النظام شبه السلطوي الذي أقامه بوتين هو أكثر ملاءمة لروسيا من النظام الديمقراطي الليبرالي؛ وأن 35 في المئة يرغبون في العودة إلى النظام السوفييتي.
وإضافة إلى ذلك، فقد أظهرت نتائج استطلاع آخر (أنجزه معهد "يوري-ليفادا" الروسي المستقل)، أن نحو ثلثي الشعب الروسي يفضلون دولة قوية توفر الحماية مقارنة مع دولة ليبرالية تضمن الحريات. وفي هذا الإطار، عبّر معظم الروس عن رغبتهم في سلطة تابعة للدولة تعمل على التنسيق بين مؤسسات السلطة الوطنية، بدلاً من الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. أما الموضوعان اللذان يحظيان بالأولوية لدى الروس، فهما الأمن والسكن (68 في المئة و64 في المئة على التوالي)؛ في حين أن 18 في المئة و4 في المئة فقط من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع، يعتبرون حرية التعبير والحق في تأسيس منظمات حرة، من الأولويات الملحة. هذا وقد اعتبر 75 في المئة من المستجوَبين أن روسيا "دولةً أورو- آسيوية لها طريقها الخاص إلى التنمية"، في حين أن 10 في المئة فقط يرون أنها "جزء من الغرب، وعليها أن تتقرب أكثر من أوروبا والولايات المتحدة". وإضافة إلى ذلك، فإن حوالي نصف المستجوَبين (45 في المئة) يرون أن الاتحاد الأوروبي يهدد استقلال روسيا المالي والاقتصادي، ويفرض ثقافته الخاصة عليها، ويشكل تهديداً لاستقلالها السياسي.
والواقع أن أقل ما يمكن قوله في هذا السياق هو أن هذه النتائج مختلفة تماماً عما كان الأميركيون والأوروبيون الغربيون يتوقعونه بعد نهاية الحرب الباردة. بل إنها مختلفة عما كان الروس أنفسهم يتوقعونه. فماذا حدث ياترى؟ الجواب هو الخوف، إنه الخوف على الأمن الذي تغذيه تجربة فترة بوريس يلتسين الموالي للغرب، والضغوط الأميركية الجديدة على روسيا.
فقد ساهمت توصيات الحكومات والمؤسسات والاستشاريين الغربيين الساذجة، والتي عادة ما كانت تحركها المصالح الذاتية، في الفوضى التي أحدثها انهيار مؤسسات الفترة الشيوعية في التسعينيات، والتي تعد في الواقع السبب الرئيسي للآراء المعبّر عنها في روسيا اليوم. كما أن معظم الروس لا يخفون سخطهم وغضبهم من أفكار ميخائيل غورباتشوف الذي كان يعتقد بأنه يمكن تغيير روسيا السوفييتية عبر الإدخال الممنهج لحكم القانون.
شكلياً، وفّر النظام السوفييتي دائماً مؤسسات ديمقراطية وأنظمة قانونية، كان يتم تجاهلها عملياً لأن هياكل الحزب الشيوعي الموازية، والتي كانت اعتباطية وغير ديمقراطية، هي التي كانت تسيطر على الدولة وتفرض عليها رغبتها عن طريق الإجراءات البوليسية والعنف، ملغية بذلك دور الحكومة التي كانت تفتقر إلى السلطة. وهكذا، كانت النتيجة الحتمية لتنحية الحكومة والحزب هي الفوضى التي عمت في عهد يلتسين عندما نُصح الروس بالتخلي عن الماضي والبدء من جديد.
والواقع أن أوجه الشبه مع ما حدث في العراق في بداية الاحتلال الأميركي عام 2003 كثيرة ومتعددة؛ حيث فُكك الجيش العراقي، وتم حظر حزب "البعث"؛ مما يدل على أن حكومة الولايات المتحدة لم تستوعب الدرس من التجربة السوفييتية. كما يعكس هذا الأمر مرة أخرى القناعة الأميركية الحالية والتي ترى أنه إذا خُلق فراغ سياسي واقتصادي، فإن الناس سيقومون بشكل تلقائي باعتناق الديمقراطية واقتصاد السوق.
والحال أنهم لا يفعلون شيئاً من هذا القبيل لأنهم يحاولون إنقاذ أنفسهم وعائلاتهم، وهو ما يعني في الحالة العراقية لجوء المواطنين إلى الهياكل والعلاقات القبلية القديمة. ففي العراق، مازالت هذه الأمور موجودة، وتمثل اليوم الهياكل الأمنية والاجتماعية الجادة الوحيدة التي توجد في دولة تحولت إلى دمار. وفي جمهوريات الاتحاد السوفييتي خلال عقد التسعينيات، أي بعد 70 عاماً من الحكم الشمولي، تُرِك الكثيرون لحال سبيلهم. ونتيجة لذلك، يرى المستجوَبون في إطار استطلاع الرأي المذكور أن فترة يلتسين التي تميزت بنوع من الحرية تمثل أحلك فترة في التاريخ الروسي الحديث، حيث ارتفعت البطالة، وانتشر الفقر، وتعددت مظاهر الظلم الاجتماعي. إنهم لا يرغبون في المزيد من ذلك. وبالمقابل، فإن بوتين منحهم مجتمعاً يسوده حكم القانون ويستتب فيه الأمن. والحقيقة أن روسيا لم تصبح ديمقراطية بعد، ولكن تجري فيها الانتخابات؛ كما أنها لا تتوفر على وسائل إعلام حرة؛ ولكن مواطنيها يتمتعون بحرية التعبير. وبفضل موارد الطاقة التي تتوفر عليها وارتفاع أسعار الطاقة بسبب أزمات الشرق الأوسط، باتت روسيا مرة أخرى قوة دولية معترفاً بها. ومهما يكن حال روسيا اليوم، فإن الشعب الروسي يبدو مرتاحاً لها.
بالمقابل، فإنه لا يبدو مرتاحاً للموقف الأجنبي، ولاسيما الأميركي، إزاء روسيا الجديدة؛ بل يعتبر الولايات المتحدة تهديداً لمصالحه القومية، وذلك للأسباب نفسها التي عبّر عنها بوتين في مؤتمر الأمن الدولي بمدينة ميونيخ في فبراير المنصرم، والتي أثارت حفيظة واندهاش المسؤولين الأميركيين.
فما الذي كانت تتوقعه واشنطن من وراء تجربة روسيا مع الرأسمالية على الطريقة الأميركية؟ وكيف افترضت أن يكون رد فعل الروس على تمديد "الناتو" إلى حدودهم الغربية؟ وما الذي كان يتوقع المسؤولون الأميركيون أن تسفر عنه جهود إقامة حكومات موالية للولايات المتحدة في جورجيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، وتطوير القواعد الأميركية في منطقة آسيا الوسطى التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي السابق؟ أو عن البرنامج الحالي القاضي بإقامة نظام جديد مضاد للصواريخ في أوروبا الوسطى؟ الواقع أنه حتى المحللين الأميركيين يرون أن مخطط إنشاء نظام دفاعي لم تثبت فعاليته ضد تهديد لم يوجد بعد، أمر غريب ومستفز. فما الهدف من التعامل مع روسيا كعدو؟ المؤكد أن إدارة بوش تسببت في خلق ما يكفي من الأعداء للولايات المتحدة.