الحي قبر مؤجل، يقف الموت على بابه بانتظار القبض على أرواح من تهوي جدران بيته.

لا يبدو الجدارالمتهتك في حارة المبيض شاذاً عن حال الجدران حوله، فالسليم وسطها أنهكته التشققات الطولانية.
أهل الحي صامدون حتى الآن في بيوتهم، يعيشون بين جدران مهترئة ومتآكلة، تنذرهم في كل ساعة بالهبوط فوق رؤوسهم.
ثمة من يحرص على أن تبقى البيوت على حالها، بانتظار عصف الريح أو اهتزاز الأرض لتحيلها إلى ركام.
شر البلية أن تقيم محافظة دمشق كل عام مهرجان دمشق للتراث، ليس بعيداً عن ما يتهالك من تراث دمشق.
كان الحي عرضة لنهب منظم من قبل أبنية الإسمنت المسلح، وتالياً ضحية للإهمال المقصود وقتل على طريق الوأد.
تاريخ الخراب والإهمال يوحي بأن ثمة من ينظر إلى حي ساروجة بوصفه خرابة.

بدا الدخول إلى حارة المبيض- حي ساروجة، محفوفاً بالخطر، فنظرة شاملة للحال التي آلت عليه أبنية الحارة، كفيلة بأن تزرع الخوف بمن يمتلك الحد الأدنى من المعرفة بشروط استقرار الأبنية هندسياً وثباتها.. ببساطة بدت الحارة كما لو إنها قبر مؤجل، يقف الموت على بابها بانتظار القبض على أرواح من تهوي جدران بيته.

قبل يوم واحد من زيارتنا للحارة، كان الموت قد فعلها وقبض على روح رجل متقاعد يدعى عبد الواحد طالو. عند السادسة إلا الربع صباحاً انهار سقف غرفة الرجل فجأة على جسده الهرم، ليموت مباشرة تحت حطامها، ويغادرها إلى المشفى، فمثواه الأخير، تاركاً أشياءه القليلة في كتبية جدارية، مشرعة لرائحة الموت والريح، وقد بدت من خلال الشارع منتصبة شاهدة على الحياة التي كانت تدب في هذا المكان المقفر قبل قليل.. (كان طيباً- يحدثنا الجار أبو علي عن طيبة جاره المتقاعد المتوفى- لم يكن أحد يسمع له صوتاً، ومنذ فترة صغيرة انتقل ليسكن في الغرفة العلوية بعد أن قضى معظم حياته في الطابق الأرضي,انتقل إلى الأعلى..) وكان الضحية طالو ينتقل إلى حتفه.

.. ولكنها جريمة:

لم يكن سقف غرفة طالو جاحداً، لطالما أعلن إنه بحاجة لترميم، ولطالما كان الدلف فيه يكبر، وينذر صاحبه بضرورة التحرك لتدعيمه، ولم يكن المرحوم طالو بطبيعة الحال يتساهل بحياته، فيعد غرفته لتكون قبراً لشيخوخته..!
في الغالب المسألة إدارية بحتة، ثمة من يمنع الترميم، تاركاً بيوتاً مثل بيت طالو تتحول ببساطة إلى قبور لأصحابها.
إنها جريمة، حتى لو اعترض البعض هنا على توصيف حادثة الانهيار تلك بالجريمة، ليرجعها إلى القضاء والقدر. هو القضاء والقدر نعم، ولكنها جريمة، أيضاً، حتى لو لم تنطو تحت أحكام المدني، والجرائم التي يعاقب عليها القانون.
نبتعد عن موقع الجريمة، لنتجاسر وندخل إلى عمق الحارة.. طفلة تعود من مدرستها تدخل أمامنا الحارة.. عدم اكتراثها لما نتوجس خيفة منه يدفعنا للتجاسر، لنسرع خلفها في الحارة الملتوية.

لسان الحال.. خطر الموت:

على يمين الحارة، وفوق جسد جدار متهالك، ثمة طفل كتب عبارة (خطر الموت)، لا نعرف أن كانت العبارة عبث طفل لا يدري ما يكتب، توافقت مصادفة وحال الحارة التي يلعب فيها، أم أن الطفل كان يعني حقاً ما يكتب..؟!
(خطر الموت).. عبارة بدت تلخص حال الحارة وأحوال أصحابها.. على الطرف المقابل لها كان هناك دعامتان تنوءان بحملهما، دون أن يبدو أن وجودهما مبعث أمان، وضمان ألا ينهار حملهما في أي لحظة.
يتساءل صديقي المصور، ماذا لو دفعت بيدي هذه الدعامة، ماذا لو دفعها طفل عابث أو حتى استند عليها وأزاحها، ألا ينهار البيت فوقها..؟! لم نجب فهشاشة الدعامة وضعف تثبيتها كفيلان بأجوبة محتملة مرعبة عن أسئلته.
نعاود المسير، ثمة أرضية شرفة انهارت منذ أيام، ولم يبق منها سوى ستارتها المعدنية معلقة في الهواء كونها مثبتة بجدار ظل صامداً.. يطمئننا أحد الجيران: (الحمد لله ما في ضحايا، ما كان في حدا لا تحتها ولا فوقها..، لذلك اقتصرت الخسائر على أرضية الشرفة.. بسيطة).

إلى جانب البيت الذي صار بلا شرفات، كان ثمة جدار علوي لبيت مجاور قد انفلش حتى تخاله بأنه سيقع في أي لحظة، إلا أن دعامة بسيطة حالت دون ذلك إلى حين..، ولا يبدو الجدار شاذاً عن حال الجدران حوله، فالسليم وسطها أنهكته التشققات.. تشققات طويلة (يدرك المعنيون خطر أن تكون طولانية).

صامدون.. بانتظار الفرج التخطيطي:

يسكن في حارة المبيض اليوم نحو 27 عائلة، هم الصامدون حتى الآن في بيوتهم، يعيشون لبساطة حالهم ومعاشهم بين جدران مهترئة ومتآكلة، تنذرهم في كل ساعة بالهبوط فوق رؤوسهم. بينما هجر عدد آخر من سكان الحارة بيوتهم، على أمل العودة إليها عندما تسمح القوانين بذلك.

في المنطقة خلف حارة المبيض وفي الجهة التي تطل على المرحوم (السوق العتيق) سقط جدار الممر المؤدي إلى غرف الطابق العلوي في أحد البيوت الدمشقية المطلة على الشارع، ولأن الترميم ممنوع بقي الممر دون جدار أو ساترة معدنية بانتظار الفرج التخطيطي الذي ما زال تائهاً في أروقة المحافظة.

حال هذا البيوت الذي يرثى لها، ووقوف سكانها على حافة الموت المعلن، يدفعنا للتساؤل لماذا لا يقوم الأهالي بترميم بيوتهم المتهالكة..؟! إلا أن دهشة السؤال سرعان ما يبددها العم أبو علي حين يخبرنا ما الذي يعني أن تفكر في حي ساروجة بالترميم.. ببساطة ابن البلد يقول أبو علي: (ما أن تضع شوية رمل وبلوكة واحدة، حين يخرج عليك موظفو المحافظة وشرطتها، ويحاصرونك، فالرمل والأسمنت والبلوك وأي نوع يدعم هذه الأبنية في الحي ممنوع..).
يستطرد أبو علي في رواية تفاصيل المتابعة الدقيقة للمعنيين على أي حركة ترميم أو تدعيم في الحي.. حديث أبي علي على بساطته ونواياه الطيبة، كان لا يوحي إلا بأن هناك من يحرص على أن تبقى البيوت على حالها، بانتظار عصف الريح أو اهتزاز الأرض لتحيلها إلى ركام، ولماذا..؟! لا يمكن لأحد بالضبط أن يخمن بالسبب، رغم أن لكل أسبابه وحججه ومبرراته.

شر البلية.. مهرجان للتراث:

يدخل المرء إلى حارة المبيض عبر سوق ساروجة، وهو واحد من أشهر الأسواق الدمشقية القديمة، ولعلها المفارقة التي تبعث إلى شر البلية الضحك، وتالياً القهر، بأن محافظة دمشق تقيم كل عام في هذا السوق مهرجان دمشق للتراث.. وفي كل عام، ليس بعيداً عن تراث دمشق المتهالك، يسارع المعنيون، لطرش جدران السوق باللون الأبيض، وشطف السوق، وزرعه بعدد من عربات الفول وبائعي السوس والابتسامات العريضة للكلمات التي تلقى عن أهمية دمشق التاريخية وإرثها، وللوفود التي تزور السوق.. قبل أن يختفي الجميع، وقد أدوا واجبهم تجاه دمشق القديمة بينما هو تتهاوى بيوتها على بعد أمتار منهم.. ولا نعرف إن كان المرحوم عبد الواحد طالو قد رقب احتفالات مهرجان دمشق للتراث الأخير، كان بوسعه أن يسمع الكلمات وأهازيج الاحتفالات من نافذة غرفته.. ولكن هل كان بوسع أي من المحتفلين أن يسمع أنين البيت وصوت دلف السقف، في الغالب لا، وإلا لماذا لم ينتظر سقف عبد الواحد طالو قدوم مهرجان العام القادم، فهبط وأخذ معه صاحبه..؟

أحياء بهوا (النهب والخراب).. سوا:

حارة المبيض لم تكن الوحيدة بالخراب، على الضفة المقابلة تعرض بيت ضخم لحريق كبير، قال أهل الحي إنه كان ثمة تباطؤ في إخماد ناره، وتخريباً أثناء عملية الإخماد.. لتغادر الإطفاء تاركة الطابق العلوي من البيت هيكلاً من خشب المحروق.
الحريق لم يكن الأول فـ(في كل عامين أو ثلاثة، يخبرنا أحد سكان المنطقة، يحدث حريق مفتعل، مجهول الأسباب).
بالمثل لم تسلم حارة المفتي وحارة قولي وغيرها من حارات الحي أيضاً من الخراب، وعلى امتداد نحو ربع قرن كانت جميعها عرضة لنهب منظم من قبل أبنية الإسمنت المسلح، وتالياً ضحية للإهمال مقصود وقتل على طريق الوأد، وكأنه المطلوب أن تهوي المنطقة لوحدها، فلا ترميم أو تنظيم، ومن(يحاول الترميم، يخبرنا العم أبو بسام، سرعان ما يقع أسير "روح وتعال" وعلى الوعد يا كمون).

في عام 1985 قامت الجهات المعنية بهدم بضعة منازل عند مدخل الحي. ومنح السكان بالمقابل أسهماً في مشاريع سكنية في الضواحي لقاء الاستملاك، في حين تم بيع أراضي الحي الواقع في قلب المنطقة التجارية للمدينة لمقاولي البناء، لتنتصب فوق قرابة مساحة ثلث الحي أبنية ضخمة وأبراج، كان أشدها قسوة وغرابة بناء مقسم الثورة ومرآب عام 1997 في وسط حارة المفتي وحارة قولي، فوق أنقاض بيوت، نقل شهود عيان، إنها كانت من أجمل بيوت المنطقة. ويوماً بعد يوم يسوء حال البيوت، لتتآكل ما تبقى منها، دون أن يفعل المعنيون شيئاً على أرض الواقع.

خرابة.. ولكنه تراث عالمي:

وباستثناء سوق ساروجة، نجد أن تاريخ الخراب والإهمال يوحي بأن ثمة من ينظر إلى حي ساروجة بوصفه خرابة، على حد تعبير أحد سكان المنطقة، على نحو يمكن اعتبار كل ما يحدث في حي ساروجة هي جريمة، يأتي ضمنها حادثة سقوط السقف في حارة المبيض مؤخراً.

الكلام على هذا النحو لا ينطوي على أي مبالغة، فمن يعرف القيمة التاريخية والحضارية للحي الذي صنفته منظمة اليونسكو (تراثاً عالمياً) يدرك هول ما ينال حي ساروجة من إهمال.

تذكر المصادر التاريخية أن حي سوق ساروجة أُنشئ في القرن الرابع عشر الميلادي في عهد الأمير المملوك سيف الدين دنكز، ونسب اسمه إلى أحد قادته وهو صارم الدين ساروجة، وهو الحي الأول الذي يتعدى أسوار المدينة التاريخية القديمة.
احتل الحي مكانة مرموقة فكان مجالاً للتنافس بين الأمراء المملوكين الذين تسابقوا لبناء المنشآت فيه فأشادوا المدارس والجوامع والحمامات التي لا يزال الكثير منها قائماً حتى الآن وكانت المدرسة الشامية البرانية أساساً لإنشائه حيث أخذ بالاتساع حولها تدريجياً حتى اكتمل في عهد الأمير دنكز وأصبح له سوق خاص به، لكن حي سوق ساروجة تعرض للتخريب نتيجة صراعات الأمراء في الفترة المملوكية مما أدى إلى دمار المدرسة الشامية البرانية برمتها وازداد الحال سوءاً بعد أن احتل تيمورلنك دمشق عام 803 هـ الذي قام بإحراق دمشق بما فيها حي ساروجة قبل أن ينسحب منها.

اسطنبول الصغرى..:

ومع انتهاء العصر المملوكي ودخول الاحتلال العثماني إلى دمشق أخذت الكثير من ملامح الحي والسوق تتبدل، ونظراً لوقوع الحي خارج سور المدينة فقد تميز بسوقه الكبير ومنازله الواسعة وحماماته ومساجده الفخمة، وهذا ما دفع رجال الدولة العثمانية إلى التمركز فيه بعد أن أجلوا العائلات المملوكية منه وأطلقوا على الحي اسم (اسطنبول الصغرى) نسبة إلى الطبقات الأرستقراطية العثمانية التي كانت تقطنه.
في القرن التاسع عشر بدا حي ساروجة حياً سكنياً متكاملاً ضم إضافة إلى دكاكين سوقه ‏وإلى البيوت السكنية التنظيمية ثلاثة حمامات هي (الورد الجوزة والخانجي ‏‏والقرماني) وخمسة عشر مسجداً وطاحونة وعدداً من السبلان لمياه الشرب والأضرحة ومقهى.

ويبقى الحال على ما هو عليه..:

الأهمية المعمارية والتاريخية للحي، لم تمنع تعرضه لعدد من محاولات الإزالة والتهديم، إلا أن ارتفاع الأصوات للانتباه لقيمته المعمارية أدخلته في حالة سبات، ليبقى الحال على ما هو عليه بانتظار ما تؤول إليه المخططات التنظيمية الجديدة والدراسات.

طال الانتظار، وبدت سياسة التسويف هي لسان حال المعنيين، في وقت كانت حالة الحي تسوء، حتى انتهت اليوم إلى الشكل الذي تحدثنا عنها في بداية تحقيقنا.. وقد دخلنا بحالها الجديد فتحاً جديداً كانت من أولى بشائره سقوط سقف بيت وموت صاحبه.. ولا نعرف كم من الأسقف ستنهار، وكم من الأرواح ستزهق بانتظار التحرك الجدي والعملي لترميم حارات الحي وتدعيم أبنيته.

الوضع في الغالب لم يعد يسمح أبداً بسياسة التسويف وقد بات مطلوباً سرعة التحرك، ومد يد العون لأهالي المنطقة، أو منحهم رخص ترميم، أو على الأقل إتاحة الفرصة أمامهم للقيام بتدعيم نظامي لما تهالك في بيوتهم، قبل أن تتحول إلى قبور لساكنيها.

قضية بشر وحجر:

في الغالب هي قضية بشر لا حجر، ولا نريد أن يفهم من كلامنا الإساءة لهذا الموروث المعماري والتاريخي، بل نحن ندعو هنا لخطوة أولى على طريق إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا الحي المتهالك، وذلك بالحفاظ أولا على ناسه، فجنة الساروجة بلا شك هي بأهلها.. حتى لو أقض هذا الكلام مضجع تجار القرص التي يعتقد أهل الحي بأنهم بانتظار خراب حيهم ليزيحوا التاريخ ويقيموا في مكانه أبراج القرن الحادي والعشرين الباردة، فالحي في موقع هام من الوسط التجاري للمدينة، وهو بلغة البزنس يساوي الملايين.

البشر والتاريخ، أم البيتون وحسابات البزنس التجاري..؟!

تلك هي المعادلة التي نجزم أن اختيار أحد طرفيها لا يحتاج لكل هذا التفكير الذي يخوضه المعنيون اليوم.
إنها دعوة لإنقاذ حي ساروجة وأهله.. كم تكررت هذه الدعوة، كم نأمل أن تجد أذانا صاغية هذه المرة.