الدكتور الإعلامي فيصل القاسم في هذا الحوار لأبيض وأسود يضع كثيراً من النقاط الساخنة على الحروف الباردة، منها مثلاً أهمية وجود الرأي الآخر كمحصلة أولى لعمل أية وسيلة إعلامية، وثانياً نفيه لاتهام تعمد التسخين في برنامج (الاتجاه المعاكس) مع أنه يرحب به، وأخيراً نفيه لشائعة أنه حاول العمل سابقاً في التلفزيون السوري.. وفي هذا الحوار لم نعتمد الصيغة السياسية، في محاولة للاقتراب منه بصيغة أكثر بساطة وأكثر حميمية.. وهل تصلح سوى هذه الصيغة صيغة أخرى للحوار مع شخصية اعتبرت من أهم عشرين شخصية مؤثرة في العالم..

ما هو الدور الذي تعتقد أن (الجزيرة) تؤديه على صعيد صناعة الوعي السياسي في الشارع العربي أولاً، وعلى صعيد تكريس وتوظيف مبادئ وآليات الحوار في هذا الشارع ثانياً؟

لقد نجحت الجزيرة لأول مرة في تاريخ العرب الحديث في تشكيل رأي عام عربي من المحيط الى الخليج. فلأول مرة يتجمع العرب حول وسيلة إعلام عربية لمتابعة أخبارهم وقضاياهم وهمومهم، بينما كانوا في الماضي ضحية الإعلام القادم عبر الحدود من الغرب. أما الآن فقد سحبت الجزيرة البساط من تحت أقدام الإعلام الأجنبي، وراحت تخلق موقفاً شعبياً عربياً موحداً تجاه العديد من القضايا، وخاصة تلك التي كانت تتلاعب بها في الماضي وسائل الاعلام الغربية. ألم تكن الجزيرة محط أنظار الشعب العربي في تغطيتها للعدوان الإسرائيلي على لبنان؟ أما فيما يخص الحوار فإن الفضل يعود للجزيرة والعاملين فيها في إحياء تلك الفضيلة الغائبة، وذلك من خلال تبنيها لشعار الرأي والرأي الآخر. فلأول مرة أيضاً تتاح للعرب فرصة التحاور عبر وسائل الاعلام بعدما كانت وسائل الإعلام العربية في الماضي مجرد أبواق للبيانات الرسمية والحكومية. بفضل برامج الجزيرة بدأ الناس يتحاورون ولو بعنف أحياناً. لكن المهم أنهم بدؤوا يتصدون للقضايا التي كان الحديث فيها محرماً في السابق.

في ضوء تجربتك الشخصية في برنامج سياسي ذي طابع حواري، كيف تقيم مستويات قبول الرأي والرأي الآخر والحوار معه لدى النخب العربية الراهنة الثقافية والسياسية؟

لا أنكر أننا مازلنا نعاني من ثقافة الرأي الواحد، وذلك بسبب قرون من التسلط والاستبداد بأشكاله كافة. لكن الوضع بدأ يتحسن بعد أن أخذ الناس يقبلون بالحوار مع المختلفين معهم. فقد نجح برنامج الاتجاه المعاكس مثلاً في التقريب بين العديد من الاتجاهات المتعاكسة حتى لو بقي أصحابها متشبثين بآرائهم، لكن على الأقل فقد كسرنا الجليد الذي كان يلف الحياة السياسية والثقافية العربية. ومن الأسهل الآن أن تجمعي بين المتنازعين عما كان عليه الوضع قبل عشر سنوات.

ما هي الصلة من وجهة نظرك، بين الصحافة التلفزيونية والصحافة المكتوبة في العالم العربي، وما هو التعويض الذي تسعى إليه من الكتابة في الصحافة الورقية؟

ليس هناك وسيلة إعلام منفصلة عن الأخرى، بل هناك تكامل بينها جميعاً. فالصحافة التلفزيونية تعتمد كثيراً على الصحافة المكتوبة والعكس صحيح. فإذا أردنا أن نقدم برنامجاً مثلاً فلابد من العودة للصحف والكتب كي نتسلح بالمعلومات والحقائق. أما لماذا أكتب مقالات بالإضافة إلى عملي التلفزيوني فلأن التلفزيون لا يسمح لك بحكم طبيعته الهوائية للتعبير عن كل ما يجول في نفسك من أفكار وأطروحات وتفاصيل. أضيفي إلى ذلك أن مقدمي البرامج ليسوا طرفاً في النقاش كي يعبروا عن آرائهم، لهذا فهم يلجؤون إلى الصحافة المكتوبة كي يبوحوا بما يفكرون.

ألا تعتقد أن البرامج الحوارية في الجزيرة تساهم وبشكل غير مباشر في تعميق وتوسيع دائرة بعض الاختلافات السياسية بين النخب العربية، لاسيما في ضوء تدني مستوى الوعي العربي عامة لمنطق الحوار والرأي الآخر؟

ربما، لكن هذه نتيجة حتمية لثقافة الديمقراطية والتعددية. فالديمقراطية تقوم أولاً وأخيراً على الاختلاف. أيهما أفضل أن نختلف ونتصارع أم أن نساق كالقطيع؟

في برنامجك (الاتجاه المعاكس) يلاحظ المشاهدون والمتابعون أنك تتعمد إثارة المتحاورين وجرهم إلى ميادين الاختلاف، وربما التناظر، وأحياناً يبلغون هوامش غير مهذبة من السب والشتم وغيرها.. هل هذا إحدى مهمات البرنامج؟

لا أنكر أنني أتعمد التسخين والإثارة. وما العيب في ذلك؟ ألم يحقق هذا النوع من البرامج نجاحاً هائلاً في العالم العربي؟ ثم لماذا نتبرم من هذا النوع من الحوار إذا كان الغربيون يتحاورون بالكراسي في برلماناتهم أحياناً وهم الذين سبقونا بمراحل في الديمقراطية؟ وللتنويه فإن عدد الحلقات الصاخبة في برنامجي ليست كثيرة أبداً، لكنها على ما يبدو طغت على الحلقات الحوارية الهادئة، ربما لأن الناس لا يتذكرون إلا الأشياء الحامية.

أنت، كما أشار أحد الاستطلاعات، من الشخصيات المؤثرة في العالم العربي، هل ترى أن برنامج الاتجاه المعاكس هو من وضعك في هذا التأثير وإلى أي حد تجد الإثارة لعبة خاصة بك؟

لا شك أن مجلة (شالانج) الفرنسية التي صنفتني كواحد من أكثر عشرين شخصية مؤثرة في العالم اعتمدت على عدد المشاهدين الذين يتابعون البرنامج في الشرق وفي الغرب، وهو عدد فاق الخمسين مليون مشاهد حسب بحوثها. أما فيما يخص لعبة الإثارة فإنها مطلوبة جداً فأنا أعتقد أن التلفزيون كما يصفه الفرنسيون هو أداة للعرض والاستعراض. وأنا اتفق مع هذا التوصيف لأن أي برنامج تلفزيوني هو في نهاية المطاف نوع من (الشو بزنس) وحتى السياسة في الغرب هي نوع من الاستعراض، وكلما كان السياسي أكثر قدرة على الاستعراض كان أكثر قدرة على التواصل مع الجماهير والتأثير بها كما حصل مع العديد من الرؤساء الأمريكيين.

أين فيصل القاسم خارج (الاتجاه المعاكس)؟

أجد نفسي خارج الاتجاه المعاكس في الكتابة والقراءة والمطالعة والصحافة وربما في العمل الأكاديمي كوني ذا خلفية أكاديمية أصلاً.

نلاحظ أنه هناك تأثير للصيغة التلفزيونية على كتاباتك الصحفية والمتابع يلاحظ أن النبرة التي تكتب فيها هي ذات النبرة التي تتحدث بها؟

فعلاً هناك تشابه في اللغة لأن لغة الإعلام عموماً يجب أن تكون مباشرة وقريبة من الناس وسهلة الهضم، فالإعلام ليس للفلاسفة أو الأكاديميين المتحجرين (والمتكرشين) بل له لغته الخاصة على الشاشة وفي الصحيفة.

حدثتنا عن تصوراتك الشخصية للمستقبل العربي المنظور على صعيد نشر الديمقراطيات وثقافة الحوار، هل يمكن حرق مراحل عديدة بزمن قياسي في مجال بلوغ هذه الثقافة وتوطينها أم أن الأمر لا يعدو كونه سحابة صيف؟

لا يمكن السباحة في نفس النهر مرتين. بعبارة أخرى لا يمكن العودة الى الماضي، فالشعوب بدأت تتحرر من عقدة الخوف المزمن وبدأت تتفاعل مع بعضها البعض بفضل الإعلام. صحيح أنها لن تتقن لعبة الحوار بين ليلة وضحاها لكنها على الأقل بدأت اللعبة، ولا بد أن تتقنها في يوم من الأيام.

لو قيض لك أن تكون معداً ومقدماً في التلفزيون السوري فما هو البرنامج الذي ستختاره؟

بما إن الإعلام المحلي لا يمكن أن ينافس الإعلام القادم عبر الحدود في التغطيات السياسية والحوارية، فإنني سأختار تقديم برنامج يغوص في أعماق مشكلات الناس المحلية وهمومهم اليومية، لكن ليس بالطريقة السطحية التي تتبعها التلفزيونات المحلية العربية، بل على طريقة الاتجاه المعاكس وربما أعنف. وأنا متأكد أن هذا النوع من البرامج فيما لو انطلق سيحقق نجاحاً باهراً. ولعلنا نتذكر برنامج الإعلامي السوري الكبير الصديق توفيق حلاق (السالب والموجب) الذي كنا نتسمر أمام الشاشة لمتابعته لأنه كان يفضح الأمراض الاجتماعية ببراعة وجرأة ممتازة.

أنت الآن من نجوم الإعلام المشهورين، هل صحيح أنك سابقاً لم تجد فرصة عمل في التلفزيون السوري ؟

ليس صحيحاً، فأنا لم أتقدم للعمل في التلفزيون السوري أبداً، ليس لأنني لا أريد العمل في تلفزيون بلدي بل لأنني بدأت عملي الإعلامي أصلاً خارج الوطن ومازلت أعمل في الخارج حتى الآن.