إن الحرب الطائفية في العراق قد بدأت منذ فترة طويلة، إذا نظرنا إلى الواقع العراقي بعيون مفتوحة، ومهما حاول البعض التقليل من شأنها أو حاول البعض الآخر نفيها، فإن ذلك لا يحجب الحقيقة المرة الواقعة، وقد قدمت طاحونة هذه الحرب القذرة نماذج حية عن دورانها، قتلٌ على الهوية، تهجير داخلي، هجرة خارجية... ولعل اعتراف الحكومة على عودة المهجرين إلى دورهم، يقدم الدليل على كذب هذه الحكومة عندما تنفي هذه الحرب.

إن هذه الحرب نتيجة طبيعية للمقدمات السياسية، فعندما لجأت الولايات المتحدة على تشكيل مجلس الحكم وفقاً لأسس طائفية وتشكل حكومات مؤقتة ودائمة طبقاً للأسس ذاتها، ودستور طائفي فيكون من الطبيعي قيام الحرب الطائفية.

هل سعت أمريكا إلى هذه الحرب؟ أم أن الواقع العراقي كان وراء إنتاجها؟ أم الاثنين معاً؟ الجواب: إنها لم تفعل إلا ما أدى إلى هذه الحرب.

فمن المفيد العودة قليلاً للوراء، من أجل الإجابة على الأسئلة الواردة، المعارضة العراقية كما كانت تسمي نفسها قبل الاحتلال، تكونت من غالبية شيعية مقيمة في إيران، ومن أكراد العراق في الشمال، ومن رموز أقليات أخرى موجودة في العراق، كل الاجتماعات التي كانت هذه المعارضة تعقدها في لندن وواشنطن، وبرعاية إنكليزية أمريكية كانت تبحث في أمور طائفية وكان اللاعبون الأساسيون فيها الشيعة والأكراد، وقد وضعت هذه القوى مشروعاً لها قبل الاحتلال، في اجتماعها الأخير في لندن قبل الغزو، وعندما وصل هؤلاء إلى السلطة نفذوا مشروعهم وبموافقة أمريكية، وهذا المشروع لم يخرج من التربة العراقية، بل جاء وفقاً لإرادات دولية وإقليمية، لذا يجب أن لا يستغرب أحد من هذه الحرب الطائفية التي خُطط لها من قبل الاحتلال ونُفذت بعده، ومن الطبيعي أن تشتد أكثر فأكثر، إذا بقي الحال كما هو عليه الآن، وإذا أضفنا إلى هذه السياسات الواقع العراقي، نلاحظ أن الأخير لم يقم بدور الممانعة لإيقاف هذه الحرب، بل رأينا أن الأرضية الطائفية كانت ناضجة لتفعيل المشروع الأمريكي والطائفي، ويعود ذلك لأسباب عديدة منها:

1 – منذ أن نشأت الدولة العراقية عام 1920 كانت أغلب الحكومات وبدعم إنكليزي قديماً وحديثاً أمريكي تتشكل من الطائفة السنية، التي كانت تتجاهل أحياناً عن قصد وآونة بدونه حقوق المكونات الأخرى، لأن الواقع العراقي كان يفرض عليها ذلك، وهذا لا يعني أن أعضاء الحكومة كانوا طائفيين، بل كانوا يتماشون وفق معادلات الواقع.

2 – كانت المرجعيات الدينية بمختلف لونياتها، تشكل قوة كبيرة في المجتمع وجماهيرها كانت الأوسع، ونتيجة لهذا الواقع كانت الحكومات تعمل على مرضاتها في المجالات كافة، ولم تستطع الحكومات إنتاج خطاب سياسي وطني يخدم جميع الشرائح، بل انزلقت إلى تبني الخطاب الديني مراعاة للمرجعيات.

3 – لم تعمل أمريكا وحلفاؤها في الداخل بعد الغزو، إلى تغيير الخطاب السياسي الديني السائد منذ 84 عاماً، بل أوصلت شخصيات دينية إلى إدارة شؤون الدولة، (قبل الاحتلال لم تستلم أية شخصية دينية حقيبة وزارية) والسؤال: هل فعلت أمريكا هذا الشيء وفقاً لمصالحها، أم أن الواقع العراقي لا يتحمل غير هذا النهج؟

4 – بدل أن تعمل القوى الحاكمة الحالية على بناء عراق جديد بكل المقاييس (الفرصة مواتية) سعت إلى تصفية الحسابات القديمة مع الطرف الآخر (السني) وتناغم الأخير مع هذه التصفية لأنه خسر السلطة ويريد استرجاعها، فعاد التخندق الشيعي السني إلى مربعه الأول (رجع 1400 سنة إلى الوراء).

5 – نتيجة للفلتان الأمني والسياسي والاقتصادي في العراق، تحولت بلاد الرافدين إلى فريسة سهلة للصيادين الكثر، فتسابقوا بالانقضاض عليها، فجاء تنظيم القاعدة لتصفية حساباته مع الأمريكان، ودخل اليهود للانتقام من بابل، ووصلت شركات أمنية ونفطية، وتحولت بغداد إلى مراكز أمنية لأغلب مخابرات العالم.

6 – قاطعت أغلبية الأنظمة العربية العراق من دون قرار فيما بينها، مما سهل مهمة أعداء بلاد ما بين النهرين.
إن هذه العوامل وغيرها ساهمت في تأجيج الفوضى، لأن مصلحة الوافدين إلى العراق تقتضي ذلك، وإذا استمر هذا التأجيج، سيجتاز حدود العراق موجهاً سهامه إلى عموم المنطقة، وبعد احتراق كل شيء، تقوم أمريكا وحلفاؤها بلملمة هذا الرماد من أجل بناء شرق أوسط جديد بدون عروبة وبدون إسلام وبدون مسيحيين وبدون تاريخ وهوية، وتقوم إسرائيل بدور السفان فيه، من هنا نقول: إن الطائفيين لا يستطيعون إيقاف الحرب الطائفية، بل هم وقود لها.

إن الأغلبية الصامتة من الشعب العراقي وطنية بامتياز، وهي موجودة ضمن الشرائح العراقية كافة، ولكنها لم تأخذ دورها بعد لسببين: مقموعة من قبل المرجعيات الدينية، ولا تريد أمريكا ظهور وطنيين في العراق. ولكن اليوم الذي تأخذ المبادرة بات وشيكاً.

تجربة الأربع سنوات الماضية أثبتت فشل السياسة الأمريكية، وإن استراتيجيتها الجديدة ليست إلا وجهاً تجميلياً للسياسات السابقة ومصيرها الفشل أيضاً، وقد تصل الإدارة الأمريكية بفعل سياستها الجديدة إلى تأزيم الأزمة.
يبدو (حسب الأخبار) في اليوم الأخير من شهر شباط، بأن أمريكا وافقت على حضور مؤتمر للحوار يعقد في بغداد 15/3 وبمشاركة سوريا وإيران، وهذا اعتراف منها بنصائح لجنة بيكر- هاملتون.

إن المطلوب من مؤتمر القمة في السعودية 28/3 أن يعمل وبجدية لإيقاف ما يجري في العراق، وإذا فكر المجتمعون بقلوب حارة ورؤوس باردة، وميزوا ما بين الخاص العربي والعام الخارجي، يصلون إلى إنقاذ العراق ولبنان وفلسطين والسودان، وإذا فكر هؤلاء بإملاءات الخارج، والمصالح الضيقة، سيتحولون إلى وقود تزيد من قوة اشتعال النيران العراقية، وبالتالي يحرقون أنفسهم وأوطانهم.