ما كان للولايات المتحدة أن ترضى بانعقاد مؤتمر إقليمي أو دولي حول العراق (دول الجوار العراقي) لولا أنها شعرت بأن خسائرها في العراق والتي تجاوزت الـ3150 قتيلاً، كبيرة جداً وهي خسائر وصفها دبلوماسي أمريكي وآخر عسكري شارك في حرب فيتنام، بأنها استراتيجية ومدمرة. ما يعني أن الخسائر التي تتكبدها الولايات المتحدة في بلاد الرافدين أكبر مما هو معلن، ولا سبيل أمام الولايات المتحدة، حسب ما أفاد به تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية، إلا الخروج من هذا البلد، فإن لم يكن ذلك بالتفاهم مع كل من سوريا وإيران، كما أوصت لجنة بيكر- هاملتون، وهو ما سبق للإدارة الأمريكية أن رفضته باعتبار أن الدولتين المعنيتين في الموضوع (لم تغيرا سلوكهما) أو (لم تنفذا ما هو مطلوب منهما)، فليس أمامها (الولايات المتحدة) إلا اعتماد أسلوب كارثي على سمعتها في الداخل والخارج، كذلك الذي اعتمدته يوم قررت الخروج من سايغون فراراً، وهو اليوم الذي كان مصبوغاً بما أطلق عليه (دبلوماسية القوارب)، أو دبلوماسية الفرار تعلقاً بالحبال، وهو مشهد مازال يذكر الأمريكيين بأي مصير ينتظر أبناءهم.

تحت ضغط هذه الذكريات، شددت الولايات المتحدة على أن مشاركتها في المؤتمر (الذي ما كان له أن يُعقد بدون رغبتها أو موافقتها) الدولي لدول الجوار المقرر عقده في بغداد يوم العاشر من آذار الجاري، بحضور كل من سوريا وإيران، وهي تعلم أن المعنى الحقيقي لهذا المؤتمر هو الحفاظ على أمن قوات الاحتلال، وموجبات المشروع السياسي الجاري العمل على تنفيذه بالقوة العسكرية. ولئن كان في الدعوة لعقد المؤتمر اعتراف بدور كل من سوريا وإيران، وإن جاء الاعتراف متأخراً، فإن الدعوة تشير في آن إلى أن هناك تحولاً قد طرأ داخل إدارة بوش، التي تشهد صراعاً بين فريقين: فريق استعاد وعيه وأدرك أن لا مصلحة للولايات المتحدة في كسب المزيد من المناهضين لسياستها- حتى لا نقول الأعداء لها- وفريق مؤدلج يمثله المحافظون الجدد في الخارجية الأمريكية ومكتب الأمن القومي، وهم الذين أوحوا إلى بوش بالخروج عن البروتوكول الرئاسي ليعلن أن لا علاقة لما يجري في العراق بالوضع في لبنان، رغم أن المنطقة بكاملها تعيش أزمة عنوانها (السلوك العدواني الأمريكي).
إن دوافع انعقاد مؤتمر بغداد وأهدافه، رغم الإنكار الأمريكي، تفصح عن مضامين وردت في تصريح وزارة الخارجية السورية: (إن التباحث مع الولايات المتحدة بشأن العراق هو خطوة جزئية في الاتجاه الصحيح) و(يتمثل في الحوار حول مشكلات المنطقة كافة لأنها مترابطة ويؤثر بعضها على البعض الآخر سلباً أو إيجاباً).

الاتجاه الصحيح الذي يظهره الحوار هو ان تعلن الولايات المتحدة عزمها إلى إخراج قواتها من العراق وفق جدول زمني. مضمون هذه الحقيقة كان وارداً في موقفين: الأول رسمي عبر عنه وزير الدفاع روبرت غيتس بقوله أمام مجلس الشيوخ (ليس لنا رغبة في أن يكون لنا قواعد دائمة في العراق). والثاني: عسكري شعبي إذ ذكرت نيويورك تايمز (1/3/2007) أن 1600 جندي أمريكي يؤدون الخدمة الاحتياط حالياً ناشدوا الكونغرس (دعم الانسحاب السريع لكل القوات العسكرية والقواعد الأمريكية في العراق).

الملاحظ أن مؤتمر بغداد يتم مع ثلاث مناسبات صاحبت تاريخ العراق والمنطقة: الأولى.. سقوط بغداد بيد المغول (385/1250)، والثانية: غزو بريطانيا للعراق في العاشر من آذار 1917 والذي كان هدفه إلحاق العراق بممتلكات الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، لكن ثورة العشرين جعلت الحكم البريطاني سراباً، والثالثة: غزو الولايات المتحدة وحلفائها للعراق يوم 17 آذار 2003 والتي يقول (توني دودج) أستاذ السياسة الدولية في جامعة لندن: إن الإدارة الأمريكية وجدت نفسها بعد 80 عاماً من التجربة البريطانية في مواجهة التكلفة العالية لنزعتها العدوانية. ما يعني أن إدارة بوش التي كانت تراهن على (خطة تأمين بغداد) لا تملك أي أمل في النجاح. وهاهي بريطانيا تعلن سحب قواتها من جنوب العراق. والخلاصة.. إن الغزاة يذهبون ويبقى المكان والتاريخ.