ما هي حقيقة متغيرات السياسة الخارجية الأميركية التي دفعت ادارة جورج بوش الى المشاركة في الاجتماع الأمني الذي يعقد اليوم في بغداد بدعوة من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي؟

وما هي الاسباب التي اجبرت الولايات المتحدة على قبول توصيات تقرير لجنة بايكر - هاميلتون في ضرورة محاورة ايران وسوريا، بعدما رفض الرئيس بوش تنفيذ هذا الاقتراح؟

للالمام بكل جوانب المشكلة لا بد من مراجعة النتائج التي اعقبت عملية اقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وتعيين روبرت غيتس مكانه. حدث اثناء جلسة الاستماع للوزير الجديد ان اعلن امام الكونغرس عن رفضه استخدام القوة العسكرية ضد ايران، وقال انه يفضل استعمال الوسائل الديبلوماسية. ويبدو ان هذا الجواب المتحفظ لم يرضِ نائب الرئيس ديك تشيني بدليل معارضته لموقف غيتس، وتأكيده ان جميع الخيارات مطروحة، بما في ذلك الخيار العسكري.

وكان تشيني بهذا التصريح يعبر عن رأي بوش الذي شعر بأن افكار الوزير الجديد لا تنسجم مع نهج الشلة التي تتألف منها ادارته. خصوصاً بعدما اتبع تشيني ملاحظاته المتشددة بإعلان موقف اكثر تصلباً اختصر فيه رفضه أي مساومة مع كوريا الشمالية. ولوحظ في حينه ان تكرار الخيار العسكري من قبل تشيني، كان موجهاً ايضاً الى رئيس وزراء بريطانيا طوني بلير الذي وصف قرار العمل العسكري ضد ايران بأنه عمل غير صحيح. وعلقت الصحف الاميركية على موقف بلير الذي وعد بسحب قواته من العراق في الربيع، بالقول انه ترك حليفه في منتصف الطريق يعاني وحده من تهمة الغاصب المحتل. وقد أعلن بلير عن موعد سحب قواته في وقت كان صديقه بوش يتبجح بأنه سيرسل الى العراق 21 ألف جندي اضافي. والسبب، كما ادعت واشنطن، ان القوات الاميركية اعتقلت مسؤولين امنيين ايرانيين، كانوا يوزعون على المقاتلين العراقيين صواريخ وقنابل متطورة.

بعد انقضاء فترة قصيرة انشغل خلالها تشيني بالتحقيق الذي اجري مع كبير مساعديه لويس ليبي، فاجأ الرئيس بوش حلفاءه الاوروبيين بارسال حاملة طائرات ثانية الى منطقة الخليج (يو اس اس ستينس). وكان من الطبيعي ان ترد طهران على هذا الاستفزاز السافر باجراء مناورات بحرية قريبة من قطع الاسطول الخامس. ولكن هذه المناورات لم تبدد مخاوف الحكومة الايرانية، خصوصاً انها تزامنت مع موعد اطلاق خطة امنية عراقية - اميركية ضد الميليشيات في العراق. وبدلا من اطمئنان غالبية الشعب العراقي الى خطة تبشر بتحقيق المصالحة الوطنية، ازدادت العمليات الانتقامية الطائفية وارتفع بسببها عدد القتلى.

وصدف اثناء تنفيذ الخطة الأمنية الجديدة، ان اعتدى رجال الشرطة العراقية على فتاة سنية تدعى صابرين الجنابي، الامر الذي اثار احتجاج جماعة "القاعدة" واستنكارها. وعلى الفور اعلنت "القاعدة" عن خطف 18 شرطياً شيعياً قامت بإعدامهم رمياً بالرصاص، ثم عرضت "فيديو" الانتقام على شاشات التلفزيون. وهكذا تحولت عملية الاغتصاب الى رمز للمرحلة الجديدة من الاحتلال، والى مبرر لاتهام حكومة المالكي بالتآمر مع الاميركيين لاغتصاب "الأمة".

يشير التحول الاخير في سياسة اميركا الخارجية الى تهميش دور نائب الرئيس ديك تشيني وتقدم حظوظ الوزيرة كوندوليزا رايس. والسبب ان بوش تجاوز تحذيرات نائبه بشأن الصفقة التي عقدت مع كوريا الشمالية، كما تجاوز اعتراضه على الاشتراك في مؤتمر بغداد لكونه يضم ايران وسوريا. ورأت الصحف الاميركية في هذه الخطوة المتأخرة تراجعاً من قبل سيد البيت الأبيض وتسليماً ضمنياً بتوصيات تقرير لبايكر - هاميلتون. واللافت ان هذا التراجع حدث بعد اربع سنوات اصرت ادارة بوش خلالها على التفرد بحل ازمة العراق. من هنا ترى العواصم العربية ان قبول مبدأ المشاركة في ايجاد الحل، هو إقرار بفشل الولايات المتحدة، واعتراف بقدرة

اطراف اخرى، مثل ايران وسوريا على التأثير في مجريات الأحداث.

يتردد في واشنطن ان التهديد بضرب المنشآت النووية الايرانية دفع نظام الملالي الى القبول بالوسائل الديبلوماسية طريقاً لتحقيق الاتفاق. في حين ترى طهران ان التغيير الذي طرأ على موقف الرئيس بوش فرضه وزير الدفاع روبرت غيتس وخمسة جنرالات كبار هددوا بالاستقالة اذا ما اقدم البيت الابيض على اتخاذ خطوة متهورة. ويرى الجنرالات ان وجود حاملتي الطائرات قرب الشواطىء الايرانية يمثل استفزازاً ربما تعمده بوش بقصد استثارة طهران وتشجيعها على المباشرة في الهجوم. عندئذ تتخذ واشنطن من التحرش بأسطولها الخامس بقيادة الاميرال باتريك والش ذريعة لتسديد ضربات انتقامية. وقد حدد الكولونيل سام غاردنر اهداف الاسطول الخامس باربعمئة هدف تشمل منصات الصواريخ الباليستية الموجودة قرب الحدود مع العراق، والمطارات الحربية، والمنشآت النووية المبنية تحت الارض.

كوندوليزا رايس لم تلغ الخيار العسكري، وانما اعتبرت مؤتمر بغداد المنعقد اليوم الفرصة الاخيرة قبل بدء العمليات العسكرية ضد ايران. ولكن هذا الكلام يناقض موافقتها على عقد المؤتمر الثاني في اسطنبول. وهي تقول ان وزير خارجية تركيا عبدالله غول هو الذي اقترح نقل مكان الاجتماع الى بغداد بعدما ارتأت اربع دول عربية عقده في القاهرة. وهو الذي اشار الى ضرورة دعوة الدول الدائمة العضوية في مجلس الامن بحيث يعطى العراق اهتماما دوليا الى جانب الاهتمام العربي الممثل بالجامعة العربية والدول المشاركة. ومن المتوقع ان يعقد المؤتمر الثاني خلال شهر نيسان في اسطنبول، على ان يصار الى توسيع المشاركة على نحو يلغي مستقبلا الدور الاحتكاري الذي تضطلع به الولايات المتحدة في العراق. ويرى الوزير غول ان واشنطن لن تستطيع حصر اهتمام المشاركين في مؤتمر بغداد بالشأن العراقي مثلما يطالب جورج بوش، وانما هناك احتمال باثارة كل المواضيع الاخرى المتعلقة بمصير الجولان والدولة الفلسطينية والازمة اللبنانية.

المصادر الايرانية المطلعة تقول ان الولايات المتحدة يئست من الوضع العراقي، وقررت تسليمه الى الدول الاقليمية، شرط توفير الغطاء السياسي لانسحاب مشرف. وترى طهران ان الحظر الذي رافق تحركاتها السابقة قد رفع نسبيا بعد اعلانها عن الاستعداد لرعاية الشأن الشيعي في العراق، مقابل ان تتولى السعودية ومصر وتركيا رعاية الشأن السني، ويتوقع المشاركون في مؤتمر بغداد ان تصبح ايران جزءا من الحل وليس جزءا من المشكلة. ويرى المعلقون ان المجازر المذهبية التي اقترفت في المدن العراقية، وما افرزته من مضاعفات خطيرة كادت تفجر الساحة اللبنانية، كانت الهاجس الذي حمله الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد الى الرياض. ومن المؤكد ان اجتماع الدول السنية السبع في باكستان قد زاد من قلق طهران التي تخوفت من المحاولات الرامية الى استغلال الورقة الطائفية لضرب نفوذها المتنامي في لبنان والضفة الغربية والبحرين والكويت. وهذا ما حرص الرئيس نجاد على شرحه في الرياض، مؤكدا ان علاقات ايران مع جاراتها العربيات تختلف جدا عن علاقاتها مع الولايات المتحدة والدول الغربية عموما. فالى جانب علاقات الجوار والجغرافيا هناك عامل الدين والمعتقد.

ولما تحدث الرئيس نجاد عن البرنامج النووي، اكد انه لا يستهدف الدول العربية، وانه يتجنب الاغراض العسكرية. لذلك عرض التعاون وتقديم كل الخبرات اللازمة في حال قررت الدول العربية بناء مفاعلات نووية للأغراض السلمية.
وهكذا عملت اهم مرجعيتين للسنة والشيعة على اخراج السجال المذهبي من التنافس السياسي خوفا من تجدد خلافات يزيد عمرها على اربعة عشر قرنا، ومن تبديد

صيغة التعايش التي عرف بها لبنان والعراق قبل ثورة الخميني.

قبل انعقاد مؤتمر بغداد بثلاثة ايام فجر خالد مشعل في طهران قنبلة سياسية استغلها ايهود اولمرت ليحذر الرئيس محمود عباس من المطبات الايرانية المزروعة في طريق خطة "خريطة الطريق". قال ان "حماس" ترفض الاعتراف الرسمي بالكيان الصهيوني الغاصب، وتصر على استمرار المقاومة المسلحة.

وعانقه الرئيس نجاد بحرارة، شاكرا له هذه الديباجة، ثم رد عليه مطمئنا بـ"ان الكيان الصهيوني يمر في اسوأ مرحلة في حياته، وان النصر الالهي الذي حققه ايمان مقاومة الشعب الفلسطيني المظلوم سيظهر الى العيان قريبا".

في واقع الحال يتساءل محمود عباس عن حاجة خالد مشعل الى اطلاق موقف يعرف جيدا انه سيؤثر على تشكيل حكومة الاتحاد الوطني، وانه سيعطي اسرائيل واميركا واللجنة الرباعية ذريعة للتراجع عن كل الوعود. علما بأن رئيس الوزراء اسماعيل هنية اعلن عقب لقاء مكة، بأن المصالحة مع "فتح" لن تبدل في مواقف الفريقين ومعتقداتهما الثابتة، ولكن الرئيس عباس يتساءل عن الغاية من وضع العراقيل في طريقه، ومن اطالة امد حصار الشعب الفلسطيني ومعاناته.

الجواب قدمه الرئيس نجاد الذي جدد تمنياته باضمحلال الكيان الصهيوني، معارضا بهذه التوقعات سياسة مبعوثه على لاريجاني الذي تعهد في مؤتمر ميونيخ بأن ايران لا تحمل نيات عدوانية ضد اي دولة بما في ذلك اسرائيل.

ويستدل من توقيت تكرار مواقف سابقة، ان ايران تريد ان تتعامل مع واشنطن في مؤتمر بغداد معاملتها لدولة مهزومة لا تستحق اي تعاون للانسحاب المشرف. ويبدو انها طلبت من "حماس" اعلان موقف مماثل لاعتقادها بأن اسرائيل تعاني من تفكك داخلي بسبب هزيمتها امام "حزب الله" وانه ليس من الحكمة مساعدتها على الخروج من الورطة الداخلية. وفي ضوء هذا التفكير، ترفض طهران ان تكون جزءا من مظلة الرعاية الاقليمية العربية - الاسلامية، السنية - الشيعية، التي تسعى اميركا الى نشرها كبديل من قواتها المهيأة للانسحاب. وهذا ما يفسر الموقف المتشدد الذي اعلنه الوزير السوري وليد المعلم وتهديده باغلاق الحدود مع لبنان اذا تقرر نشر مراقبين دوليين بين البلدين.

وربما ساهمت القراءة الايرانية في تصعيد الموقفين معا، كجزء من خطة ديبلوماسية تقضي باستنزاف "النمر الجريح" كما وصف رفسنجاني وضع جورج بوش. ولكن رفسنجاني حذر من خطر "النمر الجريح" ومن احتمال تغليب خيار الحرب على خيار السلام اذا كان الثمن استغلال الفراغ السياسي لتقديم المنطقة الى فلاديمير بوتين!

مصادر
النهار (لبنان)