يعيش السوريون تحت ظل حالة الطوارئ منذ ثلاثة وأربعين عامــاً. وتركـت الطــوارئ آثارها الســوداء والثقيلة في حياة السوريين بمختلف جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان المثقفون بين أكثر فئات السوريين تأثراً بحالة الطوارئ، وهي الحالة التي نجد بعض تعبيراتها الواضحة في ما يصيب المثقفين اليوم من أذى، يشمل المتابعة الأمنية والاعتقال والمحاكم والسجون، فيما وضع آخرون منهم على قوائم الممنوعين من السفر، وبعضهم ممنوع من العمل أو مصروف منه بالاستناد إلى تعليمات أمنية.

وما يصيب المثقفين السوريين من تنكيل امني، هو واحد من ترديات أصابتهم، وأثرت على جوانب مختلفة من حياتهم، بحيث جعلتها، لا تختلف عن مستويات حياة اقرانهم في البلدان العربية المجاورة فقط، انما جعلت حياتهم في اوضاع غير طبيعية في كل المجالات والمستويات، من حيث التنظيم ومستويات الدخول والبنية الفكرية والثقافية والابداعية، باستثناء ما لحقها من عمليات اخضاع من جهة او تشريد ونفي إلى الخارج من جهة ثانية.

لقد ادى اعلان حالة الطوارئ في سوريا في آذار 1963 الى حظر أي نشاط مستقل للمثقفين السوريين، واضاف الى ذلك الحد من دورهم في الحياة العامة، عندما جرى حل الاحزاب والجماعات السياسية واغلاق الصحف، وكل منها شكل حاضنة وحيزاً لمشاركة المثقفين السوريين في الحياة العامة في فترة ما بعد الاستقلال، وميداناً من ميادين كسب عيشهم وتطوير قدراتهم. وكان من بين نتائج تلك الاجراءات التي استندت الى اعلان الطوارئ ذهاب المثقفين السوريين في واحد من ثلاث اتجاهات: اولها قسم جرى إلحاقه بمؤسسات النظام الجديد الثقافية والاعلامية، والثاني جرى عزله عن المشاركة في الحياة العامة، بينما تم دفع القسم الثالث للخروج من سوريا الى الدول المجاورة، ومنها تشتت هؤلاء واستقروا في كثير من بلدان الشتات.

وطبقاً لمحتوى حالة الطـوارئ، فقد منع على المثــقفين ـ كما على عموم الســوريين ـ خلق اطــر وتعبــيرات تنظيمية او منابر فكرية تعبر عنهم او عن آرائهم ومواقفهم. وقد تفتق ذهن السلطات عن خطوات تحكم من خلالها قبضتها على الاطر والكادرات الثقافية عن طريق خلق منظمات مرتبطة بالسلطــة وبالحــزب الحــاكم على غرار ما تم القيام به من خطــوات في ميدان المنظـمات الجماهيرية والنقابية مثل العمل والاطباء. وهكذا ولدت نقابة العاملين في الصحافة، التي تحولت في النصف الاول من السبعينيات الى اتحاد الصحافيين، وجرى تأطير الكتاب في اتحاد الكتاب العرب في العام ,1969 وتم ضم اساتذة الجامعات الى نقابة المعلمين باعتبارها تنظيماً نقابياً للعاملين في التعليم.

لقد جرى تطبيق سياسة «ماكارثية» ضد كثير من المثقفين المخالفين فكرياً وسياسياً للنظام الحاكم، بل شملت تلك السياسة المعترضين كلياً او جزئياً على سياسات السلطات، وجرى منع دخولهم الى تلك التنظيمات من خلال ربط قبولهم في عضويتها بالاستناد الى موقفهم من حزب البعث الحاكم، وجرى فصل او طرد من انخرط في صفوف تلك التنظيمات في ظروف نشأتها الاولى، كما جرى من جهة اخرى التضييق على المثقفين العاملين في اجهزة الدولة نقلاً وتسريحاً، ومنع بعضهم من العمل لدى المؤسسات الحكومية، وجرى منع آخرين من الكتابة في الصحافة، اضافة الى منع نشر وتداول بعض نتاجاتهم الفكرية والابداعية، وكان من نتائج تلك السياسات اضعاف مكانة الثقافة في الحياة العامة وتهميش المثقفين ودورهم، ودفعهم نحو المزيد من الافقار وتردي الاوضاع المادية.

واذا كانت نتائج «الماكارثية» ضد المثقفين السوريين، قد اثمرت انكفاء كثيرين منهم عن مباشرة العمل العام والمشاركة في انشطة وفعاليات مستقلة ما ساهم في تهميش الثقافة السورية وترديها، فإن بعض المثقفين ظلوا امناء لوظيفة الثقافة باعتبارها محركاً واداة انماء وتطوير للمجتمع، ولعل من المهم الاشارة الى حالتين في تعبيرات مناهضة المثقفين السوريين للسياسة المكارثية ضدهم، كانت الاولى نهوضهم في اواخر السبعينيات ومحاولتهم التصدي لترديات الحالة السورية، والتي كان الاهم فيها ما حدث على مدرج جامعة دمشق في لقاء المثقفين مع رموز السلطة الحاكمة، وتمثلت الحالة الثانية في الدور الذي قام به المثقفون في السنوات الاخيرة اعتباراً من العام 2000 والذي سجل بداية لحراك ثقافي واجتماعي هدفه التغيير الوطني والديموقراطي في سوريا.

وكان الاهم في ثمار حراك المثقفين السوريين في السنوات الاخيرة، ثلاث نقاط اساسية، كانت الاولى فيها تحديد الملامح العامة لهموم ومشكلات الحياة السورية وسبل الخروج منها، والثانية، خلق اطر تساعد في المضي نحو المخرج السوري. وبين الاثنتين جاءت النقطة الثالثة في اشاعة الحوار حول القضايا التي تواجه سوريا دولة ومواطنين.

ان بيان 99 الصادر في العام ,2001 وكذلك بيان الالف ووثائق اخرى لاحقة تشارك المثقفون السوريون في وضعها واطلاقها مثل اعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي، واعلان بيروت ـ دمشق / دمشق ـ بيروت لتصحيح مسار العلاقات السورية ـ اللبنانية، دعت الى معالجة الموضوعات الاهم في السياسة السورية ولا سيما قضايا الاصلاح وامتداداتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وصولاً الى السياسة الخارجية.

وسعى المثقفون بالتشارك مع فعاليات اجتماعية وسياسية الى اقامة هيئات تحتوي الحراك الثقافي والاجتماعي وتنظمه، فوُلدت في هذا السياق ظاهرتان مهمتان في تاريخ سوريا الحديث، تمثلتا في المنتديات المتعددة من جهة، وتشكيل عدد من منظمات المجتمع المدني، وتزامن هذا النشاط مع اشاعة المثقفين السوريين حوارات واسعة في الصحافة السورية والعربية وعبر محطات الاذاعة والتلفزة ومواقع الانترنت حول القضايا الاساسية في الحياة السورية وضرورات الاصلاح.

وفي الوقت الذي يفترض فيه ان تقدم السلطات مساعدة للمثقفين وحراكهم في محاولة اخراج سوريا من مشكلاتها، وتفتح بوابات حوار معهم على ارضية المصالح الوطنية الكبرى، فقد لجأت السلطات الى التضييق على الحراك العام، فاتهمت المشاركين فيه بأخذ البلاد نحو «الجزأرة»، ثم اغلقت المنتديات وحظرت نشاطها، وبدأت في التضييق على نشاط منظمات المجتمع المدني والجماعات الحقوقية، بحيث مهدت لاولى حملات الاعتقال ضد المثقفين والناشطين في العام ,2001 حيث اعتقل الناشطون العشرة المعروفون بمعتقلي ربيع دمشق وبينهم عالم الاقتصاد وناشط المجتمع المدني عارف دليلة الذي صدر بحقه حكم سياسي يقضي بسجنه لمدة عشر سنوات.

وتكررت على مدار السنوات التالية الحملات ضد المثقفين، اعتقالاً ومحاكمات واحكاما بالسجن، وملاحقات واستدعاءات واتهامات مضللة، ومنعاً من الكتابة والتعامل في الاعلام الرسمي، وتسريحاً من العمل في دوائر الدولة ومنعاً من السفر، طاولت عشرات المثقفين وبينهم اشخاص من اهم الشخصيات الثقافية العربية، وهذه بعض معاناة المثقفين السوريين من سياسة رسمية منظمة هدفها اخضاعهم وتهميش دورهم في الحياة العامة، وهي سياسة اساسها الاستناد الى حالة الطوارئ التي اسسها البعث مع وصوله الى السلطة عام .1963

مصادر
السفير (لبنان)