تعيش المنطقة العربية مزيجاً من التحديات الأقليمية والدولية. فإضافة لمخاطر السياسة الأميركية الراهنة والاحتلال الإسرائيلي المستمر هناك أيضاً تزايد للنفوذ الإيراني في المنطقة العربية. لكن التعامل مع هذا "النفوذ الإيراني" بمنظار مذهبي أو عرقي سيدفع بأوضاع المنطقة إلى مزيد من الانهيار على الجبهتين العربية والإسلامية، وإلى تحقيق مكاسب ضخمة للقوى الساعية إلى فرض هيمنتها على أرض وثروات البلاد العربية والإسلامية.

إنّ ضعف المناعة في الجسد العربي هو الذي جعله قابلاً لاستقبال حالات الأوبئة التي تعشّش الآن في خلاياه، وأخطرها وباء الانقسام الطائفي والمذهبي.
ولو لم يكن حال الأمّة العربية بهذا المستوى من الوهن والانقسام، لما كان ممكناً أصلاً استباحة بلاد العرب من الجهات الأربع كلّها.

النفوذ الإيراني يستفيد طبعاً من إستمرار الصراع العربي/الإسرائيلي الذي لم ينتهِ رغم معاهدات التسوية الجزئية التي حصلت حتى الآن، فإيران تقف إلى جانب من لم تشملهم التسوية بعد ولم تتحرّر أرضهم من الاحتلال الإسرائيلي.
النفوذ الإيراني يستفيد أيضاً من كون إيران تقف الآن في مواجهة الإدارة الأميركية التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والسورية، فضلاً عمّا قدمته من دعم لحرب إسرائيل التدميرية على كلّ لبنان.

إنّ موقف حكومة طهران لا يتحدّد طبعاً على أساس مصالح فلسطينية أو سورية أو لبنانية أو عربية بشكل عام، هو موقف إيراني تفرضه المصلحة الإيرانية في التعامل مع تهديدات أميركية وإسرائيلية بالحرب على إيران، وفي مواجهة الضغوط الدولية لمحاصرتها سياسياً واقتصادياً إلى جانب الانتشار العسكري الأميركي المتزايد على معظم حدودها البرّية والبحرية.
إذن، فإنّ "النفوذ الإيراني" يستفيد من جهة من واقع سلبي للحال العربي، وهو من جهة أخرى يتعامل مع ضغط أميركي وإسرائيلي تحاول حكومة طهران أن تصدّه بكل الوسائل المتاحة لها.

وربّما يكون حاضر البلاد العربية اليوم هو أكثر الدلالات على مخاطر ما حدث في الربع الأخير من القرن الماضي، إن لجهة إخراج مصر من موقعها التاريخي في المنطقة ومن الصراع مع إسرائيل، أو لجهة آثار ما حدث من حروب ما كان يجب أن تحصل (الحرب العراقية/الإيرانية ثمّ غزو الكويت) ومن معاهدات تسوية جزئية ناقصة مع إسرائيل لم تحقّق سلاماً ولا عدلاً ولا حرّية.

العرب يدفعون الآن ثمن خطايا كبيرة حدثت في المنطقة، فضلاً عن أنّهم بلا مرجعية واحدة وبلا بوصلة مرشدة لحركتهم السياسية ولمعاركهم العسكرية.

فلو رفضت حكومة الرئيس المصري الراحل أنور السادات توقيع معاهدات التسوية مع إسرائيل ما لم تنسحب إسرائيل أيضاً من قطاع غزّة (فقط) الذي كان تحت الإدارة المصرية حينما احتلته إسرائيل في حرب العام 1967، ولو رفضت الحكومة الأردنية توقيع المعاهدة مع إسرائيل ما لم تنسحب الأخيرة من الضفة الغربية والقدس (وهي الأراضي الفلسطينية التي كانت خاضعة للإشراف الأردني)، هل كان من داعٍ لاحقاً للصراعات الدائرة حول مصير الضفة وغزة ومشروع الدولة الفلسطينية؟!
مصر والأردن خرجتا من الصراع العربي/الإسرائيلي وهما الجهتان المسؤولتان تاريخياً عن الضفة والقدس وغزّة، والجبهة العسكرية الحدودية لهذين البلدين هي الأهم في هذا الصراع، وحدودهما هي المتنفّس الحيوي للشعب الفلسطيني وصلته الجغرافية مع أمّته العربية.
وقد وقع الفلسطينيون ضحية هذه المعاهدات أولاً، ثمّ ضحية اتفاقيات أوسلو التي لم تعترف حتى بأنّ إسرائيل هي قوّة محتلّة!

ثمّ جاءت الحرب الأميركية/البريطانية على العراق لتجعل من منطقة الخليج العربي ساحة توتّر دائم وخط اشتباك محتمل بين أميركا وإيران. كذلك هي نتائج الاحتلال للعراق من حيث الفرز المناطقي والمذهبي وتدمير مقوّمات الدولة العراقية، وما أدّى إليه هذا الواقع الدموي العراقي المستمر من مخاوف لدى كل دول الجوار بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمتها السعودية.

وهكذا تعيش دول الخليج العربي جملة من المخاوف أقلّها تصاعد النفوذ الإيراني في العراق والخليج وبلدان أخرى، وأخطرها المواجهة العسكرية الأميركية مع إيران وتداعياتها على كل دول المنطقة.

لكن التعامل مع تزايد النفوذ الإيراني لا يجب أن يحجب المخاطر الأخرى المتمثّلة بالاحتلال الأجنبي والإسرائيلي الجاثم على أكثر من أرض عربية، بل تستدعي هذه التحديات كلها تصحيح التوازنات في المنطقة من خلال قيام تضامن عربي شامل وسليم يضع الأسس المتينة للعلاقات بين الدول العربية، وبينها وبين سائر دول الجوار.

ولن يتحقّق هذا التضامن العربي الفعّال ما لم تحصل رؤية عربية مشتركة بين مصر والسعودية وسوريا، تحديداً لقضايا فلسطين والعراق ولبنان.

ففي ظلّ التباعد الحاصل بين دمشق والرياض والقاهرة، يتمدّد النفوذ الأجنبي والإقليمي في المنطقة، ويتواصل الاحتلال، وتتعزّز فرص الحروب الأهلية التي ستحرق الأخضر واليابس معاً في معظم أرجاء المنطقة.

هي مسؤولية عربية مشتركة الآن قبل القمّة المرتقبة في الرياض، أن تقف القاهرة والرياض ودمشق على أرضية واحدة من المواقف تجاه العدوّ والصديق والخصم، وبالتالي الاتفاق على تصنيف "الأعداء" و"الخصوم" و"الأصدقاء". ومن المهم اعتماد المصلحة العربية المشتركة لا المصالح الفئوية كمعيار للتصنيف. فقد ثبت حتى الآن من تجارب السنوات الثلاثين الماضية، أنّ المصلحة الفئوية تتحقّق آنياً ولفترة محدودة، ثم ترتدّ إلى الوراء بحكم تداخل قضايا المنطقة وتداعياتها المتلاحقة وتأثيراتها الشاملة.

هذا الدرس قد انطبق على التسويات السياسية الانفرادية وعلى الحروب العسكرية الفئوية. وسيتكرّر الدرس نفسه في مسألة الموقف من إيران، ومن القضايا العراقية والفلسطينية واللبنانية.

وحينما يخرج موقف عربي موحّد من رؤية عربية مشتركة، فإنّ "النفوذ الإيراني" سيتقلص لصالح دعم هذا الموقف العربي لا أن يكون بديلاً عنه كما هو واقع الحال اليوم.

التضامن العربي الفعال على المستوى الرسمي بحاجة أيضاً لتدعيم الوحدة الوطنية الشعبية في كل بلد عربي، فبذلك التضامن الرسمي والوحدة الشعبية يمكن مواجهة مخاطر الهيمنة الإقليمية والدولية وما هو قائم من "هلال احتلال" يمتدّ من القدس إلى بغداد!