بعد الانهيار المريع لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية من عالم الأخلاق والعدالة الإنسانية والحفاظ على حقوق الإنسان ، وحقوق الدول والشعوب ، والاستهتار بأمن وسلامة البشرية ، لدرجة أصبحت تثير سخرية حتى المواطن الأمريكي ذاته عندما تقوم وزارة الخارجية الأمريكية بإصدار تقارير لجانها المتخصصة تحدد فيها الدول التي تمارس " الإرهاب " والدول التي تدعمه ، والدول " المارقة " ودول أخرى خارجة على القانون ، وتقارير خرق حقوق الإنسان ...!! - وهذه أهمها - ولا شك أن في وزارة الخارجية الأمريكية أضخم جهاز في العالم يقوم على فبركة الأكاذيب وإطلاق سيل من التهم بحق الآخرين تخدم توجهات هذه الإدارة ، ويعتقد المسئولون ( مخطئين طبعاً ) أن مجرد إصدار مثل هذه اللوائح والتقارير التوصيفية ، ولو مست في بعض جوانبها دولاً حليفة ، ( مجرد رتوش ) وطبعاً ليس لدرجة إلحاق الضرر البالغ بأنظمتها التابعة ، هو بحد ذاته كاف لتبييض صفحة الإدارة الأمريكية والحفاظ على سمعة " ربما كانت لها " قبل أكثر من نصف قرن ، أهدرتها ، وتحاول استعادة شيء منها ، ويبدو أن ذلك كان هو الوجه الآخر للمرآة التي اعتمدها غلاة المتطرفين ، المتغطرسين في تلك الدولة ، وهم بأغلبيتهم من خريجي المدارس المتصهينة والمحافل السرية ، حتى أصبحت غطرستهم بنظر المواطن الأمريكي نفسه مجرد مشاعر فارغة من أي مضمون ولا تستند إلى قاعدة أخلاقية - مادية حقيقية وعادلة في التعامل مع الآخر على امتداد الكرة الأرضية ، وأما في عالمنا فإننا قد نطلق على مثل هذه المشاعر وبالعامية (العنطزة ).

من البديهي أنه ليس لنظام أن يستمر إذا ما أهدر قاعدة التعامل الأخلاقي القائم على العدالة الإنسانية ، نظام لا يعتمد في التعامل مع الآخر منطق القوة والغطرسة والتلويح بها ، فالمعروف أن التفكير بالعضلات لا يتناسب أبداً مع التفكير بالعقل ، وبالتالي لا يتفق منطق كل من الأسلوبين ، بل يتناقضا أشد التناقض ، صقور المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية ومن منطلق استخدام عضلات القوة العسكرية في التفكير ، لا يستطيعون التماثل مع الآخر ، ولا يفكرون بنفس الطريقة ، وسر خطورة هذا الأسلوب أنه يتعرض للانهيار في لحظة حاسمة ، يتم فيها اكتشاف نقطة ضعفه الأساسية ، وتكون النهاية على يد من لم يؤخذ بالحسبان أبداً ، التاريخ القديم والحديث أثبت أن العمالقة من الدول انهارت في لحظة مغامرة تم فيها تحييد العقل ، بسبب مركب غطرسة القوة المخادع .

لا بد أنني أجانب الحقيقية إذا قلت أن لا أحد في الإدارة الأمريكية يحسب مثل هذا الحساب ، بل المؤكد أن أكثر من مؤسسة ، وإدارة خاصة أو مجموعة من اللجان تعمل على مدار الساعات الأربع والعشرين في مراقبة وإحصاء كل حركة أو سكنة على مساحة العالم ،أو لدول بعينها ، قد تستهدفها المخططات الأمريكية ، أو تستهدف ما حولها بما في ذلك مصالح هذه الدول ، وهي إما تم تحييدها بطريقة الترغيب ، أو الترهيب ، وهذه الأخيرة لا بد تعمل لامتلاك أداة القوة والكلمة الفصل لردع الترهيب ، وخلال ربع القرن الأخير وحده – أي قبل العام 2000 ، وبسبب السلوك العدواني للإدارات الأمريكية المتعاقبة ، أمكن مضاعفة عدد الحاقدين على سياسات أمريكا عدة مرات ، كما أثبتت الإدارات الأمريكية المتعاقبة عدم صدقيتها ، أو جديتها في إيجاد حلول للمشاكل المستعصية عبر العالم ، وأهمها التحرر من الاحتلال ، وتحقيق العدالة ، ومكافحة الفقر والبطالة ، وزيادة مستوى النمو الاقتصادي ، وغالبية دول العالم الثالث ، اعتماداً على تقارير خبراء دوليون ، يدركـون أن عمليات النهب الأمريكية المتواصلة لموارد العالم هي السبب الرئيس ، يضاف إلى ذلك جملة من الأسباب يصعب حصرها وتعدادها ، ويبقى أن عمليات الرقابة هذه ، وتقديم النصح والمشورة للإدارة ، وخاصة الحالية قد لا تلقى الأذن الصاغية ، وبالتالي لا تحول دون ركوب هذه الإدارة متن المغامرة مرة تلو المرة ، وقلت في مقال سابق قبل أكثر من شهر أن كل الاستعدادات والتحركات الأمريكية في المحيطات والبحار القريبة والبعيدة تشير إلى تحضيرات ثابتة ومبنية على خطط موضوعة لضرب أكثر من بلد في المنطقة ، وليس إيران لوحدها ، هذه العملية قد تكون المغامرة الأخيرة للإدارة الأمريكية التي وصلت إلى " القمة" ، وهذه قمة زاويتها الحادة لا تسمح بالبقاء فوقها طويلاً ، وحسب القانون الطبيعي يجب أن تبدأ رحلة العودة والانحسار ، أو الانقلاب إلى الجانب الآخر من القمة وهو المجهول ، وهذا لا يعني أن هذه النهاية الحتمية قد اقتربت ، أغلب التوقعات تشير إلى أنها ستحصل مع نهاية الربع الأول لهذا القرن .

من المؤشرات اللافتة جداً ، فرط الحساسية الأمريكية تجاه الإعلان الصيني عن زيادة في موازنة الدفاع ، والاتجاه لتحديث الجيش الصيني ، وربما زيادة عديده ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الخوف الكامن من المارد الصيني ، وتتبع نواياه التي بدا حتى الآن متمسكاً بكتمانها وعدم الإفصاح عن شيء من تفاصيلها ، وهنا سر قوة هذا التنين ، يعمل بصمت، ويتحرك بهدوء ، وإذا ما ربطنا بعض الحراك والنشاط الصيني لأشهر خلت ، بما تم الإعلان عنه ، واستخدمنا بعضاً من الخيال على طريقة الأفلام الأمريكية النشطة ، أمكننا الخروج بنتائج مذهلة ومنها أن الصين ستكون قادرة وخلال زمن قياسي ( نظرياً ) على تدمير الأقمار التجسسية الأمريكية العاملة في نطاق الرقابة على تحركها العسكري ، وضمن مجالها الحيوي ، وبزمن قياسي ، عندما تدنو ساعة الصفر ، وقد تتحدد هذه الساعة طبقاً لحركة المغامرة – المقامرة ، الأمريكية في المناطق القريبة من الصين ، ... إيران على سبيل المثال ، وليس حرياً بالإدارة الأمريكية أو ببعض رجالاتها وخبرائها أن يعتقدوا أن الحيلة قد تنطلي على رجال التنين الأصفر ، وأن إجراءات أمريكا في المحيط ( قواعد عسكرية ، وقواعد صواريخ مضادة للصواريخ ، وقواعد بحرية وجوية ... الخ ) غايتها محاربة " الإرهاب " ، وهو نفسه الأداة الذي حاربت به القوة السوفيتية العظمى التي شكلت على مدى عقود طويلة القطب العالمي الآخر ، الطوق العسكري الأمريكي – المتحالف تحت اسم الناتو ، لم يزل يستهدف القوة الروسية ، لكنه يأخذ في الحسبان القوة الصينية صاحبة المستقبل ، القوة المتصاعدة ، المقبولة أخلاقيا ، وإنسانياً من قبل شعوب المحيط ومنطقة المشرق ، وأفريقيا ، كونها لم تشكل قوة استعمارية طامعة ، وليس لها أعداء .
ليس من حق الولايات المتحدة الأمريكية أن تنكر حق أي من دول العالم في إقرار موازنة الدفاع التي تراها مناسبة لقدراتها وحاجاتها ، على الأقل لأن أحداً لم يستنكر مثل هكذا قرارات تتخذها الولايات المتحدة دورياً وعلى الملأ ، ولغايات مكشوفة ومعلنة جوهرها : شن الحروب على الآخرين والسيطرة على دول وشعوب وثروات العالم ، وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، فإنه من حق دول العالم على الأقل أن تسأل الإدارة الأمريكية عن الميزة " المجهولة " التي أعطت للإدارة الأمريكية حق محاسبة الآخرين ، والتعامي عن حقيقتها المفضوحة – المكشوفة ..!! أم أن الجمل لا يستطيع رؤية الحدبة التي تعلو ظهره .؟.

غريب أن يصمت العالم على تقارير وزارة الخارجية الأمريكية التي تتهم الآخرين " بالديكتاتورية " وانتهاك حقوق الإنسان ، وارتكاب جرائم بحق الإنسانية ، وممارسة " الإرهاب أو دعمه " وإذا كان الحكام الأفراد يمارسون الديكتاتورية بحق شعوبهم ، وينتهكون حقوق الذين ينافسوهم ، أو يقتلون بعض القيادات من زعماء المعارضة ، أو تنظيمات مسلحة ضمن بلدانهم ، فالإدارة الأمريكية تريد فرض ديكتاتوريتها على العالم كله عن طريق استخدام القوة ، أو قرارات مجلس الأمر الذي تسيطر عليه وتموله ، وهي تنتهك حقوق ثلاثة أرباع البشرية ، وجزء من هؤلاء ضمن الأرض الأمريكية ، وأما عن المجازر بحق الإنسانية فلنا أن ندع الإحصاءات القديمة في فيتنام ولاوس وكمبوديا والفلبين وكثير من المناطق الأخرى ، لنقوم بإحصاء بسيط في الزمن الحديث ، لنتبين أن الأعداد تفوق الخيال ، وهي بالملايين في كل من أفغانستان ، وصربيا ، والعراق وفلسطين ، ولبنان ، وأن ما تم إبادته من الشعب العراقي خلال سنوات ثلاث هو عشرين ضعفاً لما قيل أن النظام السابق أوقعه بشعبه خلال ثلاثين سنة أو أكثر ،... فأي نفاق هذا ..!! وإذا افترضنا أن الصمت مبرر لأسباب نستمر في جهلها أو تجاهلها ، فما هو مبرر الصمت على محاولة منع الآخرين من امتلاك سلاح الدفاع عن النفس ..؟ أم أنها شريعة اللص الذي يحتج أمام القاضي بأن صاحب البيت كان يمتلك السلاح ولولا ذلك لما حصل الاشتباك ولما سقط الضحايا ..؟.

هل من المفترض أن تستمر الصين أو حتى الروس ، أو غيرهم بتجاهل الواقع العدواني الأمريكي على الدول المحيطة والقريبة منهم ، إلى أن تقع الفأس في رؤوسهم ، أم على الأقل أن يمدوا يد العون والمساعدة للدول المستهدفة لتتمكن على الأقل من الدفاع عن نفسها دون أن يحلم أحد بمهاجمة أمريكا بعيداً عن الأرض الأمريكية ... ضمن المدى المنظور .

إذا كانت المغامرة هي الوسيلة الأنجع لتحقيق الأهداف ، وإذا كان من المحتم ركوب المغامرة أمريكياً ، فإنه من الحتمي أيضاً أن يكون السقوط إلى المقلب الآخر من القمة حتمياً ،... أي إلى المجهول ، عندها ليس لأحد أن يأسف على لص رأى مصيره أمام ناظريه فأبى إلا أن يمارس عادته الشريرة .

من حق قادة أمريكا العسكريين أن ينظروا بعين القلق إلى زيادة الموازنة العسكرية الصينية ، وأن يكون هذا القلق كبيراً بحجم التنين الأصفر ، لكن من واجبهم أيضاً إعادة دولتهم إلى الحجم الطبيعي – غير الامبراطوري - الحجم الذي تستحقه ،.. لا أكثر ، ومن حقهم أن يحافظوا على مستقبل وحاضر أبنائهم وأحفادهم كما من حقنا ذلك ، بوقوفهم ضد المغامرة ، وجنون الإدارة .