جاءت ثورة الثامن من آذار عام 1963 رداً على جريمة الانفصال التي حال وقوعها أن تكون وحدة سوريا ومصر- في تصورنا- نواة لوحدة تمتد لأكثر من بلدين عربيين، انطلاقاً من الظروف العربية والإقليمية والدولية في ذلك الوقت، حيث كان الشرق الأوسط آنذاك أحد أهم مراكز الصراع بين القطبين الكبيرين (الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية) وكان القوميون الوحدويون الأقرب للاتحاد السوفييتي الذي كان (بشكل من الأشكال) داعماً لهم ( على الأقل نظرياً من جهة الوحدة، طالما أن هذا الدعم يشكل أحد أسلحته الموجهة للخصم الأمريكي). ففي ذلك الوقت لم يكن العالم كما هو الآن مبتور الساق ويسير على قدم واحدة..

بعض الحكومات العربية احتلت الصف المخالف للقوميين لأنها وجدت أن خطراً قد يمتد إلى أنظمتها جراء تلك الوحدة السورية المصرية التي استمرت من 22 شباط 1958 حتى 28 أيلول 1961، فلم توفر جهداً أو قوة أو مالاً إلا وظفته لإسقاط تلك الوحدة وإنهائها بأي ثمن، وحققت ما أرادت لأن الدعم الأمريكي والبريطاني آنذاك كان أقوى من دولتين فتيتين اجتمعتا لتكونا دولة واحدة على أسس نستطيع أن نقول إنها كانت أقرب إلى العشوائية وتحت شعارات غير واضحة المعالم، وكانت القضية الفلسطينية هي القاسم المشترك الأوضح في تلك الوحدة.

تلا الانفصال الثورة التي أعلنت خطاً اشتراكياً ورفعت شعار (الوحدة والحرية والاشتراكية) وحاولت كسر الحاجز الذي فرضه الانفصال بين سوريا ومصر لكنها لم تستطع إعادة هذه الوحدة إلى ما كانت عليه.. والمسببات كانت كثيرة، لعبت بها الظروف السورية أحياناً والمصرية في أحيان أخرى وازدادت ضغوطات الغرب على سوريا ومصر، بهدف عدم إعادة الوضع إلى ما كان عليه بين الدولتين، كذلك على الدول المجاورة لهما التي لعبت أيضاً أدواراً مساعدة لتخريب أي تقارب وحدوي سوري مصري..

مرت ثورة آذار (كغيرها من ثورات العالم) باضطرابات وخلل في الأداء، وكانت بين فترة وأخرى تتعرض إلى هزات، لكنها قاومت هذه الهزات إلى أن استقرت بعد 16 تشرين 1970 فابتدأت مرحلة جديدة في عمر تلك الثورة التي تخطت هزيمة حزيران 1967 بانتصارها على الآلة العسكرية الإسرائيلية في 6 تشرين الأول 1973، وشكل هذا الانتصار تحولاً كبيراً في خط ثورة آذار...

الغرب الذي لم ترق له أوضاع (سوريا ومصر) بعد انتصارهما في حرب تشرين وهو الذي لم ينقطع يوماً عن دعم إسرائيل إضافة إلى إحساسه المرير بهزيمة جسره الجوي الممتد من الولايات المتحدة إلى تل أبيب، لم يتوان عن متابعة عدائه لدولتين خرجتا عن المألوف (العربي) ونقصد هنا (هزيمة إسرائيل) فوظف كل قواه لإحباط هذا الانتصار وتهميشه ولضمان عدم تكراره استطاع أن يحيد مصر باتفاقية (كامب ديفيد) فخرجت إلى اللارجعة من الصراع العربي الإسرائيلي الذي كان من أهم ماجمع بين الدولتين في دولة الوحدة، وتمت محاصرة سوريا لإحباط النهج الوحدوي فيها.. فتعرضت سوريا لمشكلات وأزمات بدأت ولم تزل حتى الآن تتعرض لها من الجهة ذاتها (الولايات المتحدة وحلفائها) كقيام الحرب الأهلية في لبنان حيث تلتها الاغتيالات والعمليات التخريبية التي قام بها الإخوان المسلمون في الثمانينيات ثم الحصار الاقتصادي الذي فرض على سوريا ثم تحريك النظام العراقي لإعلان الحرب ضد إيران، ثم جاءت الحركة التي حاولت الإخلال بالنظام والاستئثار به والانقلاب عليه، ثم احتلال الكويت وحرب الخليج الأولى..

جميع تلك الأحداث كانت تؤثر على سوريا بشكل مباشر، حيث كان بعضها موجهاً إلى سوريا مباشرة (كالحصار الاقتصادي وأحداث الإخوان) وبعضها الآخر مؤثر مباشرة من خارج المحيط السوري إلى داخله، مع الإشارة إلى سقوط النظام السوفييتي الصديق لسوريا وتوقف الدعم عنها...

ما سبق ليس استعراضاً تاريخياً إنما أردنا القول:

إن ثورة آذار مرت بمراحل عدة وحوصرت منذ ولادتها، ولكنها حتى وإن افترضنا أنها قد حققت كامل ما رفعته من شعارات فهي تمر اليوم بمرحلة جديدة مختلفة كلياً عن المراحل السابقة التي عاشتها (رغم أن حصار الغرب مازال قائماً) فإن هذه المرحلة (الجديدة) تقتضي منا إعادة تقييم التجربة (على حلوها ومرها) واستخلاص النتائج لنرى المستقبل بوضوح أكثر وبشفافية أعلى.

أسئلة من واجبنا أن نطرحها:

ماذا حققت الثورة وماذا لم تحقق..؟ وهل جميع ما لم يتحقق له علاقة بضغوطات الغرب..؟ إن قلنا نعم فنحن نغلب نظرية المؤامرة على المنطق.. وإن قلنا لا فهذا يعني أن بعض الخلل الداخلي سكن تجربة هذه الثورة، وبعضه انتهى والبعض الآخر مازال قائماً علينا التخلص منه بكل قوانا.