الكفاح العربي / سعاد جروس

أفضل الأشياء تلك التي تحمل ذكرى, حقيقة أدركتها صديقة لي, بعدما تراكمت أشياء كثيرة في منزلها الصغير, وباتت تشكل عبئاً ثقيلاً عليها, وكلما حاولت التخلص من الكركبة الحاصلة حولها, هاجت الذكريات بحلوها ومرها, ومنعتها من رمي حتى أتفهها. فهذه زجاجة عطر فارغة تذكرها بمناسبة غالية, وتلك وردة يابسة من شبح حبيب مجهول, وربما جاهل, رماها على عتبتها, ثم شمَّع الخيط وهرب, وأوراق حبات شوكولاته مخبأة في ثنايا الكتب, تعيد إليها مذاق لحظات هفت على بالها.
أشياء لكل منها قصة حميمة, تجعل التخلص منها خيانة لماضي القلب, وكأن حياتها شريط من ذكريات يكر مع كل نظرة تسترقها إليها. بعد أن أنهكتها ذكريات بعضها ينفع وبعضها يضر, وبعضها لا هذا ولا ذاك, وصلت إلى قناعة أن أفضل الأشياء تلك المجردة من الأشخاص والأوقات والظلال. وكم كان سهلاً عليها رمي كل ما ابتاعته لنفسها دون مناسبة حميمة, كزهور ذابلة اشترتها لتنفيع بائعة بائسة على الرصيف, أو موبايل اشترته لأن الموبايل القديم سرق منها في المسبح... وغيرها من أغراض تفقد قيمتها كلما تقدم بها الزمن.
صديقتي حاولت إقناع نفسها عبر إقناع المحيطين بها بهذه الفكرة, بعدما قرأت تحقيقاً صحفياً في مجلة أميركية عن كيفية وضع برنامج للتخلص من الأشياء غير اللازمة. ولقد نجحت جزئياً, إذ اكتشفت أن نظريتها لا يمكن تطبيقها على الهدايا, وكل ما يحمل رائحة أحباب غابوا, كان التخلص منها يرتقي الى درجة القتل المتعمد ترتكب بحق الماضي والوجدان. لذا تساءلت عن سبيل أو وسيلة لفرمتة الذاكرة البشرية, دون آلام أو جرائم!!
أحدهم اقترح عليها الافادة من استراتيجية بوش الجديدة للعراق لإعادة بناء تفاصيل حياتها اليومية, عن طريق إرسال عشرين ألف أغنية شبابية حديثة خالية من الطرب والتطريب إلى مكتبتها المنزلية, من الأغاني التي لا تحرك عاطفة ولا تلامس قلباً, وبدل أن تبدأ نهارها بأغنية لفيروز تثير الشجن وتقلب المواجع, وتشعل أوار الحنين, تشرب قهوتها مع أغنية «احبك موت أحبك لو مطلّعة عيني». وفي المساء, لا تسمح لأم كلثوم أو نجاة الصغيرة وما شابه بالتسلل الى ليلها البهيم, وإنما تضيئه بمجموعة أغاني دبكة ووصلات أنس وتحشيش مثل «عرق ما بشرب عرق ولا ويسكي ولا تاكيلا ويلعن بيّ الأركيلة», تدعمها برمي الكتب والمجلات الثقافية والجادة في الصوبيا, كي لا تقع بيد أحد آخر وتفسد حياته.
ولن يطول الوقت لتكتشف أن ذاكرتها ستؤول سريعاً إلى الاضمحلال, ومن ثم الزوال, وأن الكون من حولها يؤدي رقصات ريم الخيام في حفلاتها الخاصة, وهي تهزهز ردفيها من غير دف. أما تلك الأشياء المثقلة بالرومانسية, فلتنتحر في أقرب حاوية زبالة من دون أي أحساس بالفقد, ولتحل متعة الاستهلاك السريع, محل الإبداع المرهق, ولتتسابق مع الجارات والصديقات على ملء أكياس الشغالات بأشياء لم يتح لها الوقت استخدامها, فكلما كان الاستهلاك أسرع, كانت أكثر انسجاماً مع حداثة رشيقة, مرشوقة هكذا بلا هم ولا غم, حداثة فيها «بوس الواوا» على قدم وساق.
إستراتيجية هذا الـ«أحدهم» مجربة كما أدعى, فهو بعد عدة سنوات من التدرب على سماع الأغاني الحديثة ومتابعة خطوط الموضة, واعتماد لغة البزنس قلباً وقالباً, صارت علاقاته مع البشر والأشياء على حد سواء, مثل «محارم ديمة من بالك أوعى تئيما... للبيت وللسيارة... وما أنعمها للنضارة, محارم ديمة ديمة»؛ مشبعة بشعور يشبه شعور ناست بعد الحلاقة يطيره كالبالون, فهو لا شيء, ولا يجب أن يفتعل شيئاً لملء فراغه الداخلي, ذلك الذي يسميه المثقفون بالفراغ الذاتي أو الروحي. فليس أجمل من الفراغ حين يمتلأ بالهواء ويطير بلا جذور مثل القشور عالياً في الجو فوق البر والبحر.
هكذا يجب أن نحيا, قالها بالفم الملآن, مؤكداً صحة استراتيجية خاصة اعتمدها أولياء الأمور في إعادة تأهيل دمشق القديمة, فبعد إزالة السوق العتيق, جاء دور شارع الملك فيصل, ليذهب مع الركام برفقة ذاكرته وذكرياته في إجازة أبدية إلى الدار الآخرة, كي تتمكن من النهوض حضارة الألمنيوم والبلور الشفيف, فنحن في زمن الشفافية والكل يجب أن يلعب على المكشوف, دون خجل كاذب ولا ادعاء عاهر بالعفة, تحت الظلال الوارفة للـ«واوا», وهي نموذج يقتدى, سينهض بالبلد ويرفعه على خوازيق ناطحات السحاب, ويزيل خراباً لا خير فيه سوى إيواء المصابين الملتاثين بداء عشق مدينة تدعى دمشق, وتغذية أوهامهم عن أقدم مدينة مأهولة في «التاريخ». هذه الكلمة, دمشق, لا تفتأ تؤرقنا وتقض مضاجعنا, وهم يعرفون أن أفضل المدن تلك التي بلا ذاكرة ولا ذكريات ولا تاريخ, وأسالوا سلسلة من المحافظين النجباء ومتعهدي البناء الأذكياء والمستثمرين الفطنين, فهم وحدهم يدركون قيمتها الكامنة في سهولة تغيير معالمها, لتبقى دائماً الأكثر مواكبة لموضة الجمال, الجاذبة لفحول السياح الميامين العرب, على الضد من سياحة آثار وأوابد لا تستجر سوى عجائز أوروبا البخلاء, من الذين لا يؤمون مرقصاً ولا باراً ولا يتعرون إلا للشمس, كي تزود جلودهم المكرمشة بالفيتامين د.
أما الغاية النبيلة من هذه التحسينات, فهي وضع حد لهذا التاريخ الراسخ في أسواق دمشق العتيقة, واقتلاعه من جذوره, بعدها يغسلون أيديهم من وخم المناخلية والمجاري الآسنة, ومن لم يعجبه قرار استملاك محافظة دمشق ليشد الرحال إلى المعضمية ويبني دمشق له هناك, وليستفرد بها ويتمرغ على أرضها, لأن مركز المدينة ترهل إلى حد غير مقبول على الإطلاق, وصار بحاجة لعمليات تجميل سريعة, تؤهلها لتكون عاصمة ثقافية للـ«واوا» عن جدارة واستحقاق, وليعاد إظهارها إكراماً للثقافة المعولمة, بشفاه مكتنزة وعدسات ملونة وحواجب مزججة ونهود سيلكون تستعصي على التهدل, وعجيزة عامرة تهز وترج, وبطن مربرب مدملج, وخصر نحيل وضامر.
بصراحة, وهم لا يخجلون من الصراحة إلى حد الوقاحة؛ يريدون دمشق جديدة حسب آخر مواصفات كاتالوكات مشاريع المدن الخيالية غير الفاضلة, نهرها مبلط, تلبس البكيني, وتمشي على الواحدة ونص, حتى نشبع عدَّ دولارات ودينارات, ونقبر الفقر والفقراء وحماة التراث والأمهات والآباء والأعزاء والأحباب. أما دمشق القديمة, فلتذهب غير مأسوف عليها إلى المسلسلات التلفزيونية والكتب الصفراء والتاريخ الأغبر.